الأحد السادس والعشرون: مثل الغَنِيٌّ ولَعازَر الفقير المريض (لوقا 16: 19-31)
أ. د. لويس حزبون
النص الإنجيلي (لوقا 16: 19-31)
19 ((كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ يَلبَسُ الأُرجُوانَ والكَتَّانَ النَّاعِم، ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّماً فاخِراً. 20 وكانَ رَجُلٌ فَقيرٌ اسمُه لَعازَر مُلْقىً عِندَ بابِه قد غطَّتِ القُروحُ جِسْمَه. 21 وكانَ يَشتَهِي أَن يَشبَعَ مِن فُتاتِ مائِدَةِ الغَنِيٌّ. غَيرَ أَنَّ الكِلابَ كانت تأتي فتَلحَسُ قُروحَه. 22 وماتَ الفَقير فحَمَلَتهُ المَلائِكَةُ إِلى حِضْنِ إِبراهيم. ثُمَّ ماتَ الغَنِيٌّ ودُفِن. 23 فرَفَعَ عَينَيهِ وهوَ في مَثْوى الأَمْواتِ يُقاسي العَذاب، فرأَى إِبراهيم عَن بُعدٍ ولَعازَر في أَحضانِه. 24 فنادى: يا أبتِ إِبراهيم ارحَمنْي فأَرسِلْ لَعاَزر لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصبَعِه في الماءِ ويُبَرِّدَ لِساني، فإِنِّي مُعَذَّبٌ في هذا اللَّهيب. 25 فقالَ إِبراهيم: يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب. 26 ومع هذا كُلِّه، فبَيننا وبَينَكم أُقيمَت هُوَّةٌ عَميقة، لِكَيلا يَستَطيعَ الَّذينَ يُريدونَ الاجتِيازَ مِن هُنا إِلَيكُم أَن يَفعَلوا ولِكَيلا يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا. 27 فقال: أَسأَلُكَ إِذاً يا أَبتِ أَن تُرسِلَه إِلى بَيتِ أَبي، 28 فإِنَّ لي خَمسَةَ إِخَوة. فَلْيُنذِرْهُم لِئَلاَّ يَصيروا هُم أَيضاً إلى مَكانِ العَذابِ هذا. 29 فقالَ إِبراهيم: عندَهُم موسى والأَنبِياء، فَلْيَستَمِعوا إِلَيهم. 30 فقال: لا يا أَبتِ إِبراهيم، ولكِن إذا مَضى إِليهِم واحِدٌ مِنَ الأَمواتِ يَتوبون. 31 فقالَ له: إِن لم يَستَمِعوا إِلى موسى والأَنبِياء، لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات)).
المقدِّمة
يَتناوَلُ إنجيلُ هذا الأحد (لوقا 16: 19-31) مَثَلَ الغَنِيِّ ولِعازَرَ الذي ضربَه يسوعُ لِلفَرِّيسيّين، المُحبِّينَ لِلمال (لوقا 16: 14)، مُعَلِّمًا إيَّاهُم الاهتِمامَ بِالقَريبِ، خُصوصًا الفقيرَ المُحتاج، ومُظهِرًا أنَّ مَن يَستَعلِي على الناسِ يكونُ مَرفوضًا مِن قِبَلِ الله (لوقا 16: 15). ويَجيءُ هذا المَثَلُ مُتَّصِلًا بمَثَلِ الوَكيلِ الخائنِ (لوقا 16: 1-13)، كَنموذجٍ لِمَن أساءَ استِعمالَ المالِ، فخَسِرَ أبديَّتَه عِوَضَ أن يَربَحَ صَداقةَ اللهِ والملكوتَ السَّماوي.
غايةُ هذا المَثَلِ هي تَطويبُ الفُقَراء، كما قالَ يسوع: “طوبى لَكُم أَيُّها الفُقَراء، فإِنَّ لَكُم مَلَكوتَ الله” (لوقا 6: 21)، وفي المقابِل توبيخُ الأغنياءِ على حُبِّهم المالَ والذّاتَ واحتِقارِ القريب، فنَصيبُهُم الويلاتُ: “الوَيلُ لَكُم أَيُّها الأَغنِياء، فقَد نِلتُم عَزاءَكُم” (لوقا 6: 24). وهكذا يُبيِّنُ يسوعُ أنَّ سُوءَ استِعمالِ الغنيِّ لِما أُوتيَ في حياتِه الأرضيَّة هو علَّةُ شقائِه الأبدي.
إرادةُ يسوعَ مِن هذا التعليم أن يُحرِّكَ ضَمائرَ الأغنياءِ ويُغيِّرَ سُلوكَهُم، ليَستَخدِموا المالَ كوسيلةِ محبَّةٍ وخِدمةٍ لا كأداةِ استِعلاءٍ وتجبُّر. وقد أصبحَ هذا المَثَلُ مَوضِعَ اهتمامِ الفُنونِ في العُصورِ الوسطى، الأمرُ الذي يُؤكِّدُ أهمِّيَّتَه في التَّاريخِ الثَّقافيِّ والكنسيّ. ومِن هنا تَكمُنُ أهمِّيَّةُ التَّأمُّلِ في وقائعِ هذا النَّصِّ الإنجيلي وتطبيقاتِه في حياتِنا اليوم.
أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 16: 19-31)
19 كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ يَلبَسُ الأُرجُوانَ والكَتَّانَ النَّاعِم، ويَتَنَعَّمُ كُلَّ يَومٍ تَنَعُّماً فاخِراً.
كَلِمَةُ «غَنِيٌّ” فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ πλούσιος، وَمُقابِلُهَا فِي العِبْرِيَّةِ עָשִׁיר، تُشِيرُ إِلَى مَنِ اسْتَغْنَى عَنِ الحَاجَةِ أَوِ اكْتَفَى بِمَا يَمْلِكُ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا الغِنَى، فِي مَثَلِ يَسُوعَ، كَانَ انْفِصَالًا عَنِ اللهِ وَالقَرِيبِ. فَالإِنْسَانُ الغَنِيُّ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ اسْمٌ، فَلَا هُوِيَّةَ لَهُ وَلَا شَخْصِيَّةَ، بَلْ صِفَةُ الغِنَى وَحْدَها هي الّتي بَرَزَت، إذْ سَعَى أَنْ يَكونَ مَشْهُورًا بَيْنَ النّاسِ بِهذَا اللَّقَبِ.” وَكَأَنَّ المُجْتَمَعَ لَمْ يَكُنْ يَرَى فِيهِ سِوَى مَالِهِ، وَلَمْ يَهْتَمَّ بِكَرَامَتِهِ كَإِنْسَانٍ. وَحَيَاتُهُ كَانَتْ مُرْتَكِزَةً عَلَى الغِنَى المَادِّيِّ لَا عَلَى الغِنَى بِاللهِ. هَذَا الغَنِيُّ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ رَحِيمٍ، بَقِيَ أَيْضًا أَمَامَ اللهِ بِلَا اسْمٍ. فَالكِتَابُ يَقُولُ عَنِ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ الرَّبَّ: ” بِشَفَتَيَّ أَسْمَاءَهَا لَا أَذْكُر“ (مَزْمُور 16: 4). وَهَذَا يُذَكِّرُ بِكَلَامِ المَسِيحِ: «مَا عَرَفْتُكُمْ قَطُّ” (مَتَّى 7: 23). فَالاِسْمُ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ عَلَامَةُ عِلَاقَةٍ وَشَرِكَةٍ مَعَ اللهِ، وَفُقْدَانُهُ يَعْنِي رَفْضًا وَعُزْلَةً.
عِبَارَةُ “الأُرْجُوَانُ” تُشِيرُ إِلَى الثَّوْبِ الأَحْمَرِ الفَاخِرِ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ المُلوكُ وَكِبَارُ مُوَظَّفِي الدَّوْلَةِ وَالأَغْنِيَاءُ (أَسْتِير 8: 2). وَكَانُوا يَسْتَخْرِجُونَ لَوْنَهُ مِنْ أَصْدَافٍ بَحْرِيَّةٍ خَاصَّةٍ، وَاشْتُهِرَ الصُّورِيُّونَ بِصِنَاعَتِهِ.
عِبَارَةُ “الكَتَّانُ النَّاعِمُ” فِي اليُونَانِيَّةِ βύσσος (أَيْ: الحَرِيرُ أَوِ الكَتَّانُ الفَاخِرُ)، وَهُوَ قِمَاشٌ نَادِرٌ وَغَالِي الثَّمَنِ، غَالِبًا مَا كَانَ يَأْتِي مِنْ مِصْرَ (أَمْثَال 31: 13). وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الكَهَنَةِ بَلْ لَبِسَهُ الأَغْنِيَاءُ أَيْضًا. وَكَوْنُ الغَنِيِّ يَلْبَسُهُمَا كُلَّ يَوْمٍ لَا فِي الأَعْيَادِ فَقَطْ، دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاخُرِ وَحَيَاةِ التَّنَعُّمِ المُفْرِطِ.
“يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ تَنَعُّمًا فَاخِرًا” هَذِهِ العِبَارَةُ تُظْهِرُ أَنَّهُ كَانَ يُقِيمُ الوَلَائِمَ يَوْمِيًّا، وَيَبْحَثُ عَنِ التَّرْفِيهِ وَإِشْبَاعِ شَهَوَاتِهِ الجَسَدِيَّةِ، دُونَ أَيِّ الْتِفَاتٍ إِلَى حَاجَاتِ نَفْسِهِ الرُّوحِيَّةِ أَوْ إِلَى لِعَازَرَ الجَائِعِ المُلْقَى عَلَى بَابِهِ. هُوَ مِثَالٌ لِـ «أَبْنَاءِ هَذَا الدَّهْرِ” (لوقا 16: 8). النَّبِيُّ عَامُوسُ وَصَفَ حَيَاةَ هَؤُلَاءِ الأَغْنِيَاءِ بِالقَوْل:” يَضْطَجِعُونَ عَلَى أَسِرَّةٍ مِنْ عَاجٍ، وَيَأْكُلُونَ الحُمْلَانَ وَالعُجُولَ المُخْتَارَةَ… وَيَشْرَبُونَ الخَمْرَ بِالكُؤُوسِ، وَلَا يَكْتَئِبُونَ لانْكِسَارِ يُوسُفَ” (عَامُوس 6: 4-6). الغَنِيُّ أَنْفَقَ مَالَهُ بِأَنَانِيَّةٍ، وَلَمْ يَعْرِفِ المُشَارَكَةَ وَلَا العَطَاءَ. وَلَيْسَ أَخْطَرَ عَلَى الإِنْسَانِ مِنْ حَيَاةِ التَّرَفِ، إِذْ يُحَذِّرُ مُوسَى النَّبِيُّ قَائِلًا: “مَتَى أَكَلْتَ وَشَرِبْتَ… تَنَبَّهْ لِئَلَّا تَنْسَى الرَّبَّ إِلَهَكَ” (تَثْنِيَة 8: 11). تَحمِلُ رِسالةُ عاموسَ النبويّةُ كَشفًا عَن مَصيرِ المُنغَمِسِينَ في غِناهُمُ الفاحِشِ، الّذينَ لا يُفَكِّرونَ إلّا بِذَواتِهِم، داعِيًا إيّاهُم إلى التَّحرُّرِ والتَّوبةِ.
تَكْرَارُ عِبَارَةِ “كُلَّ يَوْمٍ” يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَيَاةَ الغَنِيِّ كَانَتْ حَالَةً دَائِمَةً مِنَ الانْغِمَاسِ فِي المَلَذَّاتِ، لَا فِعْلًا عَابِرًا. فَالغِنَى، بِحَسَبِ الفَرِّيسِيِّينَ، كَانَ مَظْهَرًا مِنْ مَظَاهِرِ الشَّرَفِ وَمِيزَانًا لِلْقِيمَةِ الشَّخْصِيَّةِ. وَلَكِنْ، بِحَسَبِ الكِتَابِ المُقَدَّسِ، قِيمَةُ الإِنْسَانِ الحَقِيقِيَّةُ تَكْمُنُ فِي أَخْلَاقِهِ وَفَضَائِلِهِ، خَاصَّةً فِي مُعَامَلَتِهِ لِلآخَرِينَ.
20 وكانَ رَجُلٌ فَقيرٌ اسمُه لَعازَر مُلْقىً عِندَ بابِه قد غطَّتِ القُروحُ جِسْمَه
عِبَارَةُ “لِعازَر” فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ Λάζαρος، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ العِبْرِيَّةِ לַעְזָר (إِلْعَازَر)، وَمَعْنَاهُ: «اللهُ يُعِينُ» أَوْ «اللهُ مُعِينِي. فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ يَقِفُ إِلَى جَانِبِ مَنْ لَيْسَ لَهُ مُعِينٌ. يُعْلِنُ أَنَّ اللهَ يَعْرِفُ الفُقَرَاءَ وَيُحِبُّهُمْ. وَهُوَ تَطْبِيقٌ لِكَلِمَاتِ يَسُوعَ: “كُلَّمَا صَنَعْتُم شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِي هَؤُلَاءِ الصِّغَارِ، فَلِي قَدْ صَنَعْتُمُوهُ” (مَتَّى 25: 40). وَيَقُولُ القِدِّيسُ غِرِيغُورْيُوس الكَبِير: “أَشَارَ رَبُّنَا إِلَى اسْمِ الفَقِيرِ دُونَ اسْمِ الغَنِيِّ، إِذْ يَعْرِفُ اللهُ المُتَوَاضِعَ وَيُزَكِّيهِ دُونَ المُتَكَبِّر”. وَهُوَ الاِسْمُ الوَحِيدُ الَّذِي أُعْطِيَ فِي أَمْثَالِ يَسُوعَ، لِيُبَيِّنَ أَنَّ المَسِيحَ يَعْرِفُ الفُقَرَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ، فَهُم إِخْوَتُهُ. وَيَنْبَغِي التَّمْيِيزُ هُنَا بَيْنَ هَذَا “لِعازَر” الورد اسمه هنا وَ”لِعازَر” أَخِي مَرْيَمَ وَمَرْثَا الَّذِي أَقَامَهُ يَسُوعُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ (يُوحَنَّا 11)، فَالاِسْمُ كَانَ شَائِعًا بَيْنَ اليَهُودِ. ذَكَرَ لُوقا الاِسْمَ لِلْفَقِيرِ وَتَرَكَ الغَنِيَّ بِلَا اسْمٍ. هَذَا عَكْسُ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ، إِذْ يُمَجِّدُونَ الغَنِيَّ بِاسْمِهِ وَيُهْمِلُونَ الفَقِيرَ. وَبِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَرَادَ الرَّبُّ يَسُوعُ كَشْفًا عَمِيقًا عَنْ حَقِيقَةِ الفَقِيرِ، إِذْ كَانَ مُتَوَكِّلًا كُلِّيًّا عَلَى اللهِ، وَاللهُ كَانَ مَصْدَرَ قُوَّتِهِ وَعَوْنِهِ، فَاسْتَحَقَّ هَذَا الاِسْمَ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم قَائِلًا: “بِالرَّغْمِ مِنْ صِرَاعِهِ ضِدَّ الجُوعِ المُسْتَمِرِّ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَتَّى القُوتُ الضَّرُورِيُّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَكِ، وَلَمْ يَتَذَمَّرْ، وَلَمْ يُجَدِّفْ عَلَى اللهِ، بَلِ احْتَمَلَ كُلَّ شَيْءٍ بِنُبْلٍ”. وَيُضِيفُ القِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس:”سِرُّ القُوَّةِ فِي حَيَاةِ هَذَا الفَقِيرِ لَيْسَ الفَقْرَ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا قَبُولُ آلامِ الفَقْرِ بِشُكْرٍ، مُعْتَمِدًا عَلَى اللهِ المُعِين”.
عِبَارَةُ “مُلْقًى ” تشير إلى وُرُودُ الفِعْلِ فِي صِيغَةِ المَجْهُولِ ἐβέβλητο مما يُوحِي بِأَنَّ لَعازَرَ لَمْ يَذْهَبْ بِنَفْسِهِ وَيَجْلِسْ هُنَاكَ، بَلْ أُلْقِيَ أَوْ تُرِكَ أَمَامَ البَابِ، إِمَّا بِسَبَبِ عَجْزِهِ أَوْ لِأَنَّ المُجْتَمَعَ لَفَظَهُ. وَكَانَتِ العَادَةُ أَنْ يُوضَعَ الفُقَرَاءُ عَلَى أَبْوَابِ الأَغْنِيَاءِ أَوِ المَجَامِعِ (أَعْمَال 3: 2). هَذَا يُبْرِزُ حَالَتَهُ المَأْسَاوِيَّةَ: فَهُوَ ضَعِيفٌ، عَاجِزٌ، مُهَمَّشٌ، لَا يَمْلِكُ قُوَّةَ الإِرَادَةِ أَوِ الوَسِيلَةَ لِلدُّخُولِ أَوِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهِ. هُنَا يَظْهَرُ التَّنَاقُضُ: الغَنِيُّ فِي الدَّاخِلِ يُقِيمُ الوَلَائِمَ، وَلَعازَرُ فِي الخَارِجِ لَا يُقِيمُهُ أَحَدٌ. وتُظْهِرُ صِيغَةِ المَجْهُولِ أيضا أَنَّ اللهَ شَاءَ أَنْ يَكُونَ لَعازَرَ هُنَاكَ كَامْتِحَانٍ لِلْغَنِيِّ. وَبِذَلِكَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَمْتَحِنَ الغَنِيَّ بِوُجُودِ هَذَا الفَقِيرِ، فَيُعْطِيهِ فُرْصَةً لِيَصْنَعَ لَهُ أَصْدِقَاءَ مِنْ مَالِهِ. إذْ إنَّ كُلَّ إِنسانٍ هُو بِمَثابَةِ بَوّابَةِ عُبورٍ، تُساعِدُنا عَلَى التَّمتُّعِ بِحَياةِ اللهِ.
كَلِمَةُ “عِندَ بَابِهِ” تُظْهِرُ أَنَّ لَعازَرَ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنِ الغَنِيِّ، بَلْ كَانَ قَرِيبًا جِدًّا، يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بَابٌ وَاحِدٌ فَقَط. هَذَا البَابُ البَسِيطُ الَّذِي يَحْجُبُ الدَّاخِلَ عَنِ الخَارِجِ يُصْبِحُ رَمْزًا لِلهُوَّةِ العَمِيقَةِ الَّتِي كَوَّنَهَا الغَنِيُّ بِلَا مُبَالَاتِهِ (لوقا 16: 26). فَالحَاجِزُ لَيْسَ جُغْرَافِيًّا، بَلْ هُوَ حَاجِزٌ قَلْبِيٌّ رُوحِيٌّ. وَبِهَذَا يُصْبِحُ لَعازَرُ “آيَةً عِنْدَ البَابِ”: حُضُورُ الفَقِيرِ أَمَامَ بَيْتِ الغَنِيِّ لَيْسَ مُصَادَفَةً، بَلْ دَعْوَةٌ يَوْمِيَّةٌ لِلْغَنِيِّ لِيُمَارِسَ الرَّحْمَةَ. لَمْ يَذْكُرِ الإِنْجِيلُ خَطِيئَةً صَرِيحَةً لِلْغَنِيِّ سِوَى أَنَّهُ عَاشَ لِنَفْسِهِ وَأَهْمَلَ لِعازَرَ. لَمْ يَرَهُ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ، وَلَمْ يَتَّخِذْهُ صَدِيقًا، ولم يُدْرك حتى وجودَه. فَخَطَأُهُ لَيْسَ فِي غِنَاهُ بَلْ فِي حُبِّهِ لِلْعَالَمِ وَمَلَذَّاتِهِ كَغَايَةٍ فِي ذَاتِهَا. وَهَكَذَا أَقَامَ هُوَّةً عَمِيقَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ لِعازَرَ، وَهِيَ نَفْسُهَا الهُوَّةُ الَّتِي ظَهَرَتْ بَعْدَ المَوْتِ. البَابُ الَّذِي لَمْ يُفْتَحْ لِلْفَقِيرِ فِي الدُّنْيَا، يُغْلَقُ فِي الأَبَدِيَّةِ بِوَجْهِ الغَنِيِّ. فَاللَّامُبَالاةُ اليَوْمِيَّةُ تَحَوَّلَتْ إِلَى هُوَّةٍ لَا تُعْبَرُ. وَكَأَنَّ النَّصَّ يَقُولُ: ” بَابُكَ الأَرْضِيُّ إِنْ لَمْ يُفْتَحْ بِالحُبِّ، سَيَتَحَوَّلُ إِلَى بَابٍ مُغْلَقٍ فِي السَّمَاءِ”.
عِبَارَةُ “قَدْ غَطَّتِ القُرُوحُ جِسْمَهُ” تُشِيرُ إِلَى جُرُوحِهِ المُؤْلِمَةِ النَّاتِجَةِ عَنْ فَقْرِهِ وَمَرَضِهِ وَعَدَمِ الاِكْتِرَاثِ بِهِ. وَبِاخْتِصَارٍ، لَمْ يُرِدِ الغَنِيُّ أَنْ يَرَى اللهَ فِي حَيَاتِهِ مِنْ خِلَالِ لِعازَرَ الفَقِيرِ. وَيَقُولُ القِدِّيسُ بَاسِيلِيُوس: “بِمَاذَا سَتُجِيبُ الرَّبَّ الدَّيَّانَ، أَنْتَ الَّذِي تُلْبِسُ جُدْرَانَ بَيْتِكَ وَلَا تُلْبِسُ شَبِيهَكَ؟ أَنْتَ الَّذِي تُزَيِّنُ خَيْلَكَ وَلَا تَنْظُرُ حَتَّى إِلَى أَخِيكَ الَّذِي يَعِيشُ فِي الضِّيقِ؟ أَنْتَ الَّذِي تَدْفِنُ كَنْزَكَ وَلَا تُسَاعِدُ المَظْلُومَ؟”. الغَنِيُّ لَهُ اسْمٌ فِي الأَرْضِ وَلَكِنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَ اللهِ، أَمَّا لِعازَرُ فَهُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَ النَّاسِ وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفٌ وَمَكْتُوبٌ فِي السَّمَاءِ.
21 وكانَ يَشتَهِي أَن يَشبَعَ مِن فُتاتِ مائِدَةِ الغَنِيٌّ. غَيرَ أَنَّ الكِلابَ كانت تأتي فتَلحَسُ قُروحَه
“يَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنْ فُتَاتِ مَائِدَةِ الغَنِيِّ ” تُشِيرُ هذه العبارة إِلَى لَعازَر الَّذي بَقِيَ مُطروحًا خارِجَ دارِ الغَنِيِّ، لا مَكانَ لَهُ في داخِلِ البَيتِ، ولا قُدرَةَ لَهُ أَنْ يَقتاتَ حتّى مِنَ الفُتاتِ السّاقِطِ عَنْ مائِدَتِهِ. إنَّهُ مَشهَدٌ يُجَسِّدُ التَّناقُضَ الصّارِخَ بَينَ مَترفٍ يَعيِشُ في البَذخِ الدّاخِليِّ، وَفَقيرٍ يَحتَضِرُ عَلى الأَبوابِ دُونَ أَن يَلقَى نَظرةَ رَحمَةٍ أَو لَمسَةَ حَنانٍ. فَخَطيئَةُ الغَنِيِّ لَم تَكُن في غِناهُ بَل في عَماهُ عَن رُؤيةِ لَعازَر، وإغْلاق البابَ أمامه وَجُمودِ قَلبِهِ عَن مُمارَسَةِ الرَّحمَةِ الَّتي يُطالِبُ بِها اللهُ كُلَّ مُؤمِنٍ.
“ فُتاتِ مائِدَةِ الغَنِيٌّ ” تُشِيرُ هذه العبارة إِلَى تِلْكَ الكِسَرِ مِنَ الخُبْزِ الَّتِي كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا الآكِلُونَ لِمَسْحِ أَصَابِعِهِمْ بَعْدَ أَكْلِ اللَّحْمِ وَالمَرَقِ، إِذْ لَمْ تَكُنِ فُوَطُ المَائِدِة مَعْرُوفَةً يَوْمَئِذٍ. وَكَانَ الفَقِيرُ يَتَمَنَّى لَوْ يَسُدُّ رَمَقَهُ بِتِلْكَ الفُتَاتِ، إِذْ كَانَ الخَدَمُ أَحْيَانًا يُلْقُونَ هَذِهِ الفُضْلَاتِ فِي الطَّرِيقِ، فَيَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ نَصِيبٌ قَلِيلٌ مِنْهَا. وَذَكَرَ لُوقا الإِنْجِيلِيُّ هَذَا الفُتَاتَ فِي مُقَابِلَةٍ بَلِيغَةٍ مَعَ النَّفَائِسِ الَّتِي كَانَ يَتَنَعَّمُ بِهَا الغَنِيُّ كُلَّ يَوْمٍ. يُذَكِّرُنا الفُتاتُ المُتَساقِطُ مِن مائِدَةِ الغَنِيِّ بِالِامْرَأَةِ الفينيقيَّةِ السُّوريَّةِ الَّتي طَلَبَت مِنَ الرَّبِّ يَسوع أَنْ تَنالَ نَصيبًا مِن نِعَمِهِ، واعتَرَفَت مُتواضِعَةً أَنَّ الفُتاتَ الَّذي يَسقُطُ مِن مائِدَةِ الأَولادِ يَكفي لِيُشبِعَها حَياةً وخَلاصًا (مرقُس 7: 24-30). أَمَّا لَعازَرُ فَلَم يَنَل حَتّى هذا الفُتاتَ. هُنا نَكتَشِفُ أَنَّ الخَلاصَ لا يَتَوَقَّفُ عَلى فَيضِ الغِنى المادِّيِّ، بَل عَلى فُتاتِ النِّعمَةِ الإلهيَّةِ، الَّتي إنِ انفتَحَ القَلبُ لَها تُغَيِّرُ الحَياةَ وتُعطيها مَعنى أَبديًّا.
” الكِلَابُ” فِي الذِّهْنِ البَيْبَلِيِّ تُعْتَبَرُ حَيَوَانَاتٍ شِرِّيرَةً وَمُقِيتَةً: يَقُولُ المَزْمُورُ: “كِلَابٌ كَثِيرَةٌ أَحَاطَتْ بِي، زُمْرَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ أَحْدَقَتْ بِي” (مزمور 22: 17). وَيَصِفُ سِفْرُ الأَمْثَالِ الكَلْبَ بِأَنَّهُ نَجِسٌ وَقَبِيحٌئ: ” ككَلْبٍ عَائِدٍ عَلَى قَيْئِهِ (أمثال 26: 11). وَالكِلَابُ هُنَا كَانَتْ تَأْتِي لِتَنَالَ مِنْ فُتَاتِ مَائِدَةِ الغَنِيِّ، وَأَيْضًا لِتَلْحَسَ قُرُوحَ لِعَازَرَ. فَهِيَ تَرْمُزُ إِلَى البَلَايَا وَالإِهْمَالِ البَشَرِيِّ، وَإِلَى وَضْعٍ مَهِينٍ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِهِ. كَمَا أَنَّ الكِلَابَ عِنْدَ اليَهُودِ كَانَتْ تُعْتَبَرُ نَجِسَةً، وَلَكِنَّهَا فِي المَثَلِ أَظْهَرَتْ “رَحْمَةً” أَكْثَرَ مِنَ الغَنِيِّ نَفْسِهِ، إِذْ كَانَتْ تُلَاحِقُ الفَقِيرَ وَتَلْحَسُ جُرُوحَهُ، فِي حِينَ لَمْ يَكْتَرِثْ الغَنِيُّ بِهِ البَتَّةَ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَنْ يُعْتَبَرُ “نَجِسًا” (الوَثَنِيُّون) قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ حَنَانًا وَرَحْمَةً مِنَ الَّذِينَ يَدَّعُونَ التَّقْوَى. وَخَيْرُ مِثَالٍ عَلَى ذَلِكَ “السَّامِرِيُّ الرَّحِيمُ” الَّذِي تَفَوَّقَ عَلَى الكَاهِنِ وَاللَّاوِيِّ فِي الِاعْتِنَاءِ بِالرَّجُلِ الجَرِيحِ (لوقا 10: 33-37).
“قُرُوحُهُ” لَمْ تَكُنْ هَذِهِ جُرُوحًا سَطْحِيَّةً، بَلْ قُرُوحًا غَائِرَةً فِي الجِلْدِ وَالأَنْسِجَةِ العَمِيقَةِ، طَوِيلَةَ الشِّفَاءِ، نَاتِجَةً عَنْ تَقَيُّحٍ أَوْ ضَعْفِ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ أَوْ الْتِهَابٍ مَوْضِعِيٍّ.
“تَلْحَسُ قُرُوحَهُ” عِبَارَةُ تُصَوِّرُ مَشْهَدًا مُؤْلِمًا، فَالْكِلَابُ المُتَشَرِّدَةُ كَانَتْ المُمَرِّضَ الوَحِيدَ لِلْفَقِيرِ العَاجِزِ عَنْ طَرْدِهَا. وَذَلِكَ تَلْمِيحٌ بَلِيغٌ إِلَى إِهْمَالِ الغَنِيِّ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ لِلْفَقِيرِ أَدْنَى عِنَايَةٍ. الآية مليئة بالرموز: ” الفُتَاتُ يَرْمُزُ إِلَى بَذَخِ الغَنِيِّ وَتَفَاهَةِ مَا كَانَ الفَقِيرُ يَشْتَهِيهِ، “الكِلَابُ” تَرْمُزُ إِلَى الإِهْمَالِ وَالوَثَنِيِّينَ الَّذِينَ قَدْ يَتَفَوَّقُونَ بِرَحْمَتِهِمْ عَلَى أَبْنَاءِ الشَّرِيعَة و”القُرُوحُ” تَرْمُزُ إِلَى مَأْسَاةِ الإِنْسَانِ الدَّاخِلِيَّةِ الَّتِي لَا يَشْفِيهَا سِوَى اللهِ.
22 وماتَ الفَقير فحَمَلَتهُ المَلائِكَةُ إلى حِضْنِ إِبراهيم. ثُمَّ ماتَ الغَنِيٌّ ودُفِن.
“مَاتَ الفَقِيرُ” تُشِيرُ هَذِهِ العِبَارَةُ إِلَى عَدَمِ ذِكْرِ أَمْرِ جَنَازَتِهِ أَوْ دَفْنِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مُكْتَرِثًا بِأَمْرِهِ. وَيُعَبِّرُ سِفْرُ الحِكْمَةِ عَنْ هَذَا المَوْقِفِ قَائِلًا: “فِي أَعْيُنِ الأَغْبِيَاءِ يَبْدُو أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَحُسِبَ ذَهَابُهُمْ مُصِيبَةً وَرَحِيلُهُمْ عَنَّا كَارِثَةً، لَكِنَّهُمْ فِي سَلَامٍ. وَإِذَا كَانُوا فِي عُيُونِ النَّاسِ قَدْ عُوقِبُوا، فَرَجَاؤُهُمْ كَانَ مَمْلُوءًا خُلُودًا” (حِكْمَة 3: 2-3). المُلاحَظُ أَنَّ الاِسْمَ الَّذِي ذُكِرَ بَعْدَ المَوْتِ هُوَ “لِعازَر”، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَهَمِّيَّةَ لَيْسَتْ لِنَوْعِ الدَّفْنِ أَوْ مَظَاهِرِ الْجَنَازَةِ، بَلْ لِكَرَامَةِ النَّفْسِ الَّتِي يَسْتَقْبِلُهَا اللهُ.
“فَحَمَلَتْهُ المَلَائِكَةُ” هُنَا يَظْهَرُ الاِنْتِقَالُ العَجِيبُ: مِنْ رِفْقَةِ الكِلَابِ عَلَى الأَرْضِ إِلَى رِفْقَةِ المَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ. وَمَعَ أَنَّهُ يَكْفِي مَلَاكٌ وَاحِدٌ لِحَمْلِهِ، فَإِنَّ لُوقَا ذَكَرَ “المَلَائِكَةَ” جَمْعًا لِيُظْهِرَ كَرَامَةَ الفَقِيرِ فِي السَّمَاوَاتِ. وَكَانَ اليَهُودُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ المَلَائِكَةَ تَحْمِلُ أَنْفُسَ الأَتْقِيَاءِ عِنْدَ وَفَاتِهِمْ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ رَسُولُ الأُمَمِ قَائِلًا: “أَمَا هُم (المَلَائِكَةُ) كُلُّهُمْ أَرْوَاحٌ مُكَلَّفُونَ بِالخِدْمَةِ، يُرْسَلُونَ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ سَيَرِثُونَ الخَلاصَ؟” (عِبْرَانِيِّين 1: 14). فَمَوْتُ لِعازَرَ لَمْ يُحْسَبْ مَوْتًا، بَلْ اِنْتِقَالًا مِنْ عَالَمِ الفَنَاءِ إِلَى عَالَمِ البَقَاءِ.
“حِضْنُ إِبْرَاهِيم” تُشِيرُ هَذِهِ العِبَارَةُ إِلَى الاتِّحَاد مَع الله، مَوْضِعِ الأَبْرَارِ بَعْدَ الرُّقَادِ. وَإِبْرَاهِيمُ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِالإِلَهِ الوَاحِدِ، وَهُوَ أَبٌ لِكُلِّ الأُمَّةِ اليَهُودِيَّةِ. وَكَانَ اليَهُودُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الحُلُولَ فِي “حِضْنِ إِبْرَاهِيم” حَظٌّ مَصِيرِيٌّ لِكُلِّ يَهُودِيٍّ مُؤْمِنٍ. وَتَحْمِلُ العِبَارَةُ دَلَالَةَ الوَلِيمَةِ: فَكُلُّ وَاحِدٍ يَتَّكِئُ عَلَى مِرْفَقِهِ فَيَكُونُ فِي حِضْنِ الَّذِي إِلَى يَسَارِهِ. وَهَكَذَا جَلَسَ لِعازَرُ فِي أَقْرَبِ مَكَانٍ إِلَى إِبْرَاهِيم، كَمَا اتَّكَأَ يُوحَنَّا الحَبِيبُ عَلَى صَدْرِ يَسُوعَ فِي العَشَاءِ الرَّبَّانِيِّ (يُوحَنَّا 13: 23). وَمِنْهُ القَوْلُ أَيْضًا: “الابْنُ الوَحِيدُ الَّذِي فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ”(يُوحَنَّا 1: 18). فَالحِضْنُ مَكَانُ الشَّرَفِ وَالبُنُوَّةِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مَوْضِعٍ فِي الوَلِيمَةِ (لوقا 13: 28). وَالحِضْنُ أَيْضًا يَرْمُزُ إِلَى الرَّاحَةِ وَالمَحَبَّةِ، فَالمَحَبَّةُ هِيَ لُغَةُ السَّمَاءِ. يَقُولُ القِدِّيسُ قَيْصَارِيُوس أُسْقُفُ آرْل: “يُفْهَمُ “حِضْنُ إِبْرَاهِيم” عَلَى أَنَّهُ رَاحَةُ المُطَوَّبِينَ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ لِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ”. أَمَّا القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِيرُ وَالقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم، فَيَرَيَانِ فِي “حِضْنِ إِبْرَاهِيم” الفِرْدَوْسَ نَفْسَهُ. لِعازَرُ اِنْتَقَلَ مِنْ بَابٍ تَحُوطُ بِهِ الكِلَابُ، إِلَى الفِرْدَوْسِ السَّمَاوِيِّ، لا لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فَقَطْ، بَلْ لِأَنَّهُ كَانَ تَقِيًّا مُتَّكِلًا عَلَى اللهِ، عَلَى عَكْسِ الغَنِيِّ الَّذِي عَاشَ لِنَفْسِهِ وَأَهْمَلَ الفَقِيرَ. باختصار، المَوْتُ لَيْسَ نِهَايَةً بَلْ بَدَايَةٌ: الغَنِيُّ فَقَدَ الاِسْمَ وَالمَجْدَ الأَبَدِيَّ، أَمَّا لِعازَرُ فَقَدْ حَمَلَتْهُ المَلَائِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيم، حَيْثُ الرَّاحَةُ وَالمَحَبَّةُ وَالمَجْدُ الأَبَدِيُّ.
“إِبْرَاهِيم” اِسْمٌ عِبْرَانِيٌّ אַבְרָהָם (مَعْنَاهُ: “أَبُو جُمْهُورٍ”؛ تَكْوِين 17: 5). وَهُوَ ابْنُ تَارَحَ، مِنْ نَسْلِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، آمَنَ بِالإِلَهِ الوَاحِدِ، مَالِكِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ (تَكْوِين 14: 22)، وَاعْتَرَفَ بِهِ كَدَيَّانِ الأُمَمِ وَكُلِّ الأَرْضِ (تَكْوِين 15: 14، 18: 25). كَانَتْ لَهُ مَعَ اللهِ عَلاقَةٌ شَخْصِيَّةٌ وَشَرِكَةٌ رُوحِيَّةٌ عَمِيقَةٌ (تَكْوِين 24: 14)، فَنَالَ لَقَبَ “خَلِيلُ اللهِ”، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا اللَّقَبُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (2 أَخْبَار 20: 7، أَشَعْيَا 41: 8، يَعْقُوب 2: 23). بَلَغَ إِيمَانُ إِبْرَاهِيمَ ذُرْوَتَهُ حِينَ كَانَ مُسْتَعِدًّا لِتَقْدِيمِ ابْنِهِ وَحِيدِهِ ذَبِيحَةً لِلرَّبِّ، وَلَكِنَّ اللهَ مَنَعَهُ (تَكْوِين 22: 2-12). َيَذْكُرُ الكِتَابُ أَنَّ الرَّبَّ ظَهَرَ لَهُ (خُرُوج 6: 3)، وَاخْتَارَهُ (نَحَمْيَا 9: 7)، وَفَدَاهُ (أَشَعْيَا 29: 22)، وَبَارَكَهُ هُوَ وَنَسْلَهُ جَاعِلًا إِيَّاهُ وَاسِطَةَ بَرَكَةٍ لِجَمِيعِ أُمَمِ الأَرْضِ (تَكْوِين 12: 3). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم عَلَى ظُهُورِ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا المَثَلِ قَائِلًا: “قَدْ يَجْعَلُنَا هَذَا المَثَلُ نَتَسَاءَلُ: لِمَاذَا يَرَى الرَّجُلُ الغَنِيُّ لِعازَرَ فِي حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ بَدَلَ أَنْ يَكُونَ فِي حِضْنِ أَيِّ صَالِحٍ آخَرَ؟ السَّبَبُ هُوَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ ظَهَرَ بِجَانِبِ لِعازَرَ لِيَتَّهِمَ الغَنِيَّ بِبُخْلِهِ. فَفِي الوَاقِعِ، كَانَ إِبْرَاهِيمُ يُحَاوِلُ التِّقَاطَ أَبْسَطِ المَارِّينَ لِيَسْتَقْبِلَهُمْ تَحْتَ خَيْمَتِهِ (تَكْوِين 18)، بَيْنَمَا الغَنِيُّ لَمْ يَشْعُرْ سِوَى بِالاِزْدِرَاءِ تُجَاهَ لِعازَرَ المُلْقَى عِنْدَ بَابِهِ، مَعَ كُلِّ الثَّرْوَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا. بَدَلَ أَنْ يُؤَمِّنَ سَلَامَةَ الرَّجُلِ الفَقِيرِ، اسْتَمَرَّ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ بِإِهْمَالِهِ لَهُ وَلَمْ يُقَدِّمْ لَهُ العَوْنَ الَّذِي كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ”. إِبْرَاهِيمُ هُوَ أَبٌ لِكُلِّ المُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قِيلَ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ: “إِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ، فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ وَوَرَثَةٌ بِحَسَبِ المَوْعِدِ” (غَلاطِيَّة 3: 29). وَقَدْ أَشَارَ المَسِيحُ إِلَى مَكَانَتِهِ السَّامِيَةِ بَيْنَ القِدِّيسِينَ فِي السَّمَاءِ (لوقا 13: 28). وَيَرْسُمُ يَسُوعُ صُورَةَ “المَلَكُوتِ” بِمَثَلِ “الوَلِيمَةِ المَسِيحَانِيَّةِ”: “إِذْ تَرَوْنَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ فِي مَلَكُوتِ اللهِ، وَتَرَوْنَ أَنْفُسَكُمْ فِي خَارِجِهِ مَطْرُودِينَ” (لوقا 13: 28). فَالمُخْتَارُونَ يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ الآبَاءِ وَالأَنْبِيَاءِ، أَمَّا الَّذِينَ يَرْفُضُونَ دَعْوَةَ يَسُوعَ فَيُبْعَدُونَ عَنِ الوَلِيمَةِ.
“مَاتَ الغَنِيُّ” تُشِيرُ إِلَى أَنَّ غِنَاهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُ المَوْتَ. والموت وضعه أمام حقيقة كونه رجلا محرومًا من الخيرات، رجلا لم يعد يملك الثروات وبات بلا أصدقاء وبلا عائلةـ ولا تستطيع عائلته على الأرض أن تساعده. وَيُؤَكِّدُ سِفْرُ أَيُّوبَ: “عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ” (أَيُّوبُ 1: 21). فَقَدِ اسْتُدْعِيَ فَجْأَةً مِنْ قِبَلِ رَبِّ الحَيَاةِ لِلْمُسَاءَلَةِ. فَالمَوْتُ لا يُفَرِّقُ بَيْنَ فَقِيرٍ وَغَنِيٍّ، بَيْنَ مُسْتَهْتَرٍ وَتَقِيٍّ. يَقُولُ القدِّيسُ أوغسطينوس: “المَوْتُ يَدْخُلُ إِلَى قُصُورِ المُلُوكِ كَمَا يَدْخُلُ إِلَى أَكْوَاخِ الفُقَرَاءِ، فَلَا سُلْطَانٌ وَلَا غِنًى يَحْجُبَانِهِ”.
“دُفِنَ” يُظْهِرُ أَنَّ الغني حَظِيَ بِجَنَازَةٍ لَائِقَةٍ بِمَقَامِهِ وَمَنْصِبِهِ عَلَى الأَرْضِ، وَهَذَا كُلُّ مَا أَمْكَنَ مَالُهُ أَنْ يَمْنَحَهُ. وَلَكِنَّ نِهَايَتَهُ كَانَتِ التُّرَابَ، إِذِ انْقَلَبَ المَقَامُ فِي العَالَمِ الآخَرِ. فَالمَثَلُ لَمْ يُشِرْ إِلَى دَفْنِ الفَقِيرِ لِأَنَّهُ “حَيّ” فِي اللهِ، بَلْ أَكَّدَ دَفْنَ الغَنِيِّ لِأَنَّهُ “مَيِّتٌ” بِالحَقِيقَةِ. وَيَقُولُ المَزْمُورُ: “لَا تَخَفْ إِذَا اغْتَنَى الإِنْسَانُ وَازْدَادَ بَيْتُهُ مَجْدًا، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يَأْخُذُ شَيْئًا، وَلَا يَنْزِلُ مَجْدُهُ وَرَاءَهُ“ (مَزْمُور 49: 17-18). وَعِنْدَهَا تَصْدُقُ كَلِمَاتُ المَسِيحِ: ” مَاذَا يَنْفَعُ الإِنْسَانَ لَوْ رَبِحَ العَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟” (مَرْقُس 8: 36). باختصار، إِبْرَاهِيمُ يُمَثِّلُ الإِيمَانَ وَالكَرَمَ وَالاِسْتِقْبَالَ، بَيْنَمَا الغَنِيُّ يُجَسِّدُ الأنانِيَّةَ وَالإِهْمَالَ. الفَقِيرُ، الَّذِي كَانَ مَجْهُولًا عَلَى الأَرْضِ، أَصْبَحَ فِي حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَمَّا الغَنِيُّ، الَّذِي عَاشَ لِنَفْسِهِ، فَكَانَ نِصِيبُهُ التُّرَابَ وَالْخُسْرَانَ. يُذَكِّرُنا المَثَلُ أَنَّ الرَّجُلَ الفَقيرَ، الـمُحاطَ عَادَةً بِالكِلاب، كانَ بِرِفْقَةِ المَلائِكَةِ إلى جانِبِ إبرَاهِيم، بَينَما يُقالُ عَنِ الرَّجُلِ الغَنِيِّ ـ بِدونِ تَفاصيلَ ـ إنَّهُ ماتَ ودُفِن. ويُمْكِنُنا القَولُ: إنَّهُ في مَوتِ كِلَيهِما، يَنكَشِفُ الوَجهُ الحَقيقِيُّ لِما اختَبَرهُ كُلٌّ مِنهُما في حَياتِهِ على الأَرض. وَيُعَلِّقُ القدِّيسُ يوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: “المَوْتُ هُوَ مُعَلِّمُ المُسَاوَاةِ؛ يَأْخُذُ الغَنِيَّ وَالفَقِيرَ، القَوِيَّ وَالضَّعِيفَ، وَيَضَعُهُم أَمَامَ عَرْشِ اللهِ عَلَى سَوَاءٍ.” إِذًا يَتَّضِحُ أَنَّ المَوْتَ لَيْسَ نِهَايَةً فَقَط، بَلْ هُوَ بَدَايَةُ الدُّخُولِ فِي حَقِيقَةِ اللهِ، حَيْثُ تَسْقُطُ كُلُّ الفَوَارِقِ البَشَرِيَّةِ وَيَبْقَى الإِنْسَانُ بِأَعْمَالِهِ وَإِيمَانِهِ.
23 فرَفَعَ عَينَيهِ وهوَ في مَثْوى الأَمْواتِ يُقاسي العَذاب، فرأَى إِبراهيم عَن بُعدٍ ولَعازَر في أَحضانِه.
“رَفَعَ عَيْنَيْهِ” تُشِيرُ هذه العبارة إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ الغَنِيَّ كَانَ فِي مَكَانٍ سُفْلِيٍّ، بَيْنَمَا لِعَازَرُ فِي مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ وَسَامٍ (مَعْنَوِيًّا). فَتَبَادَلَتِ الأَوْضَاعُ: الفَقِيرُ صَارَ فَوْقَ، وَالغَنِيُّ أَصْبَحَ أَسْفَلَ. تبدّلت الأوضاَع بين الغني ولعازر بَعد المَوتِ. في الحَياةِ الأُخرى لا يَبقى شَيءٌ مِمّا عاشَ الغَنِيُّ لأَجلِه: لا ثَروةٌ، ولا رَفاهيَةٌ، ولا لَذّاتٌ عابِرَةٌ. كُلُّ ذلِكَ يَزولُ مَعَ الجَسَدِ ويَتَلاشَى في تُرابِ الأَرضِ. ما يَبقى هُوَ الإِنسانُ بِنَفسِه، مَعَ عَلاقاتِهِ ومَواقِفِهِ الَّتي صَنَعَها في هذِهِ الدُّنيا، حَتّى تِلكَ العَلاقاتُ الَّتي أُنشِئَت عَبرَ الثَّروةِ غَيرِ الأَمِينَةِ (لوقا 16: 9). فالقِيمَةُ الأَبَدِيَّةُ لِلحَياةِ لا تُقاسُ بِالمَمتَلكاتِ، بَل بِمِقدارِ الحُبِّ والمَحبَّةِ الَّتي عِشناها ومارَسناها. إنَّ الرَّبَّ يَدعونا أَنْ نَستَخدِمَ الخَيراتِ الزّائِلَةَ لِنَزرَعَ بِها عَلاقاتٍ صادِقَةً في الحُبِّ، فَتُصبِحَ لَنا غِنىً لا يَفنَى في السَّماءِ.
“مَثْوَى الأَمْوَاتِ” الأَصْلُ اليُونَانِيُّ: Ἅιδης ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ العِبْرِيَّةِ: שְׁאוֹל (شِئُول)، وَمَعْنَاهَا: الهاوِيَةُ أَوِ الجَحِيمُ. هُوَ المَكَانُ الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ الأَمْوَاتُ قَبْلَ القِيَامَةِ، انْتِظَارًا لِلدَّيْنُونَةِ الأَخِيرَةِ. وَفِي المَفْهُومِ اليَهُودِيِّ بَعْضُ الأَصْنَافِ مِنَ الأَمْوَاتِ كَانَتْ تَسْتَبِقُ سَعَادَتَهَا أَوْ عِقَابَهَا الأَبَدِيَّ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ يَسُوعَ لِلصِّ:
“الحَقَّ أَقُولُ لَكَ: سَتَكُونُ اليَوْمَ مَعِي فِي الفِرْدَوْسِ (παραδείσῳ)” (لوقا 23: 43).
“فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ عَنْ بُعْدٍ” تُشِيرُ إِلَى حِرْمَانِ الغَنِيِّ مِنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيم، إِذْ يَرَاهُ بَعِيدًا جِدًّا. كَانَ يَفْتَخِرُ قَبْلًا أَنَّهُ “ابْنُ إِبْرَاهِيم” (يُوحَنَّا 8: 39)، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعِشْ إِيمَانَ إِبْرَاهِيم. وَيَقُولُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِير: “مِمَّا يَزِيدُ عَذَابَ الرَّجُلِ الغَنِيِّ أَنَّهُ فِي الجَحِيمِ تَطَلَّعَ لِيَرَى لِعَازَرَ فِي حِضْنِ إِبْرَاهِيم. فَلَا يَقِفُ الأَمْرُ عِنْدَ إِحْسَاسِهِ بِعَذَابَاتِهِ الخَاصَّةِ، بَلْ بِمُقَارَنَتِهِ نَفْسَهُ بِكَرَامَةِ لِعَازَرَ تَتَضَاعَفُ آلاَمُهُ”.
“يُقَاسِي العَذَابَ” عَذَابُ الغَنِيِّ لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَأَيُّوبَ وَدَاوُدَ كَانُوا مِنْ أَغْنَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ، بَلْ لأَنَّهُ عَاشَ لِهَذَا العَالَمِ فَقَطْ، وَلَمْ يَتُبْ إِلَى اللهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ طَلَبُهُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ: “فَإِنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ. فَلْيُنْذِرْهُمْ لِئَلَّا يَصِيرُوا هُمْ أَيْضًا إِلَى مَكَانِ العَذَابِ هَذَا… يَا أَبَتِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ” (لوقا 16: 28، 30). فَالعَذَابُ أَصْلُهُ إِهْمَالُ التَّوْبَةِ وَعَدَمُ رُؤْيَةِ اللهِ فِي الفَقِيرِ. يَذْكُرُ لُوقا الاِنْجِيلِيُّ تَقَابُلًا وَاضِحًا: شَقَاءُ الأَشْرَارِ يَظْهَرُ وَيَتَضَاعَفُ بِمُقَابَلَتِهِ بِسَعَادَةِ الأَبْرَارِ. هَكَذَا صَارَ لِعَازَرُ فِي الحِضْنِ، وَالغَنِيُّ فِي العَذَابِ. باختصار، الغَنِيُّ رَفَعَ عَيْنَيْهِ لِيَرَى مَا فَقَدَهُ، بَيْنَمَا لِعَازَرُ رَفَعَهُ اللهُ إِلَى المَجْدِ. فَالأَوَّلُ رَأَى إِبْرَاهِيمَ “عَنْ بُعْدٍ”، وَالثَّانِي جَلَسَ فِي “حِضْنِ إِبْرَاهِيم”. وَهَذَا الفَارِقُ هُوَ نَتِيجَةُ طَرِيقِ الحَيَاةِ الَّذِي اخْتَارَهُ كُلٌّ مِنْهُمَا. يَتَّضِحُ لَنا إذًا أَنَّ التَّبَدُّلَ في أَحوالِ الشَّخصِيَّتَينِ لا يَتَحَدَّثُ عَن إِلهٍ يُعاقِبُ النّاسَ بِقَسوةٍ، بَل عَن حَقيقَةٍ روحيَّةٍ عَميقَة: أَنَّ اختِياراتِنا اليَوميَّةَ هِيَ الَّتي تُعِدُّ مُستَقبَلَنا وأبَدِيَّتَنا. فالمَصيرُ الأَخِيرُ لَيسَ نَتيجَةَ صُدفَةٍ أَو قَدرٍ أعمى، وإِنَّما هُو ثَمَرَةُ ما نَزرَعُهُ في مَسيرَةِ حَياتِنا اليوميَّة. مَن أَغلَقَ قَلبَهُ عَن الرَّحمَةِ والحُبِّ يَجِدُ نَفسَهُ في عُزلةٍ أبديَّة، ومَن فَتَحَ قَلبَهُ لِمَحبَّةِ اللهِ والقَريبِ يَجِدُ أنَّهُ يَدخُلُ فَرَحَ السَّيِّدِ وَشَرِكَتَهُ الأَبَدِيَّة. نَجِدُ في هذِهِ الآيَةِ إِشارَةً تَحذِيرِيَّةً، تُكشِفُ خَطَرَ الانشِغالِ بِالغِنى، وخَطَرَ عَدَمِ الانتِباهِ لِلآخَرينَ، ولِلَّهِ، وَلِلحَياةِ نَفسِها.
24 فنادى: يا أبتِ إِبراهيم ارحَمنْي فأَرسِلْ لَعاَزر لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصبَعِه في الماءِ ويُبَرِّدَ لِساني، فإِنِّي مُعَذَّبٌ في هذا اللَّهيب.
“فَنَادَى” تُشِيرُ هذه العبارة إِلَى أُسْلُوبِ مُحَادَثَةٍ مَجَازِيٍّ بَيْنَ الغَنِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ. فَلُوقا يُصَوِّرُ حِوَارًا يُعْبِّرُ عَنِ الحَالَةِ الرُّوحِيَّةِ وَالحُكْمِ الإِلَهِيِّ بِلُغَةٍ بَشَرِيَّةٍ، حَتَّى يُقَرِّبَ لِلْقُرَّاءِ حَقِيقَةَ العَالَمِ الآخَرِ.
“يَا أَبَتِ إِبْرَاهِيم” تُظْهِرُ هذه العبارة اعْتِمَادَ الغَنِيِّ عَلَى نَسَبِهِ الإِبْرَاهِيمِيِّ كَيَهُودِيٍّ، وَفْقًا لِزَعْمِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَخْتُونٍ يَأْمَنُ مِنْ عَذَابِ الجَحِيمِ. لَكِنَّهُ لَمْ يُفَعِّلْ هَذَا الاِنْتِمَاءَ بِالسَّيْرِ عَلَى خُطَى إِبْرَاهِيمَ فِي البِرِّ وَالإِيمَانِ وَالعَلاقَةِ الحَيَّةِ مَعَ اللهِ. إِبْرَاهِيمُ لَمْ يُنْكِرْ نِسْبَ الغَنِيِّ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ كَشَفَ لَهُ أَنَّ الخَلَاصَ لَا يَقُومُ عَلَى النَّسَبِ وَحْدَهُ، بَلْ عَلَى المَسْؤُولِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ. وَهَذَا يُوَافِقُ مَا جَاءَ فِي سِفْرِ حِزْقِيَال: “النَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ… فَابْتَعِدُوا عَنْ كُلِّ مَعَاصِيكُمْ، وَاصْنَعُوا لَكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا وَرُوحًا جَدِيدًا” (حِزْقِيَال 18: 4، 31).
“لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ فِي المَاءِ” تَصْوِيرٌ مُؤَلِّمٌ لِلطَّلَبِ الأَقَلِّ: قَطْرَةُ مَاءٍ. الغَنِيُّ الَّذِي أَنْفَقَ أَمْوَالًا طَائِلَةً عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَانِيَّةٍ، يُصْبِحُ الآن مُسْتَعْطِيًا نُقْطَةَ مَاءٍ مِنَ الفَقِيرِ الَّذِي أَهْمَلَهُ. هُوَ مَشْهَدُ تَبَادُلِ الأَوْضَاعِ: كَمَا اشْتَهَى لِعَازَرُ فُتَاتًا مِنْ مَائِدَةِ الغَنِيِّ، هَكَذَا يَشْتَهِي الغَنِيُّ الآنَ قَطْرَةَ مَاءٍ يَتَمَتَّعُ بِهَا لِعَازَرُ هَذَا الطَّلَبُ يُلْمِحُ أَيْضًا إِلَى أَقَلِّ أَعْمَالِ الرَّحْمَةِ الَّتِي كَانَ يُمْكِنُ لِلْغَنِيِّ أَنْ يَقُومَ بِهَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: “مَعَ كَوْنِ الغَنِيِّ وَهُوَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ بِلَا جَسَدٍ (أَيْ رُوحًا مُجَرَّدَةً)، لَكِنَّهُ رَآى نَفْسَهُ كَمَنْ هُوَ فِي جَسَدِهِ، إِذْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يُمَيِّزَ حَالَهُ”.
“فَإِنِّي مُعَذَّبٌ فِي هَذَا اللَّهيبِ” تُشِيرُ إِلَى وَصْفٍ رَمْزِيٍّ لِهَوْلِ الأَلَمِ، النَّاتِجِ عَنِ الأَشْوَاقِ المُشْتَعِلَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إِشْبَاعُهَا بَعْدُ. فَاللَّهِيبُ هُنَا صُورَةٌ لِحَرَارَةِ النَّدَمِ وَالْحِرْمَانِ. مِنَ الجَدِيرِ ذِكْرُهُ أَنَّهَا الصَّلَاةُ الوَحِيدَةُ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ الَّتِي وُجِّهَتْ إِلَى قِدِّيسٍ فِي السَّمَاءِ، لَكِنَّهَا لَمْ تُسْتَجَبْ، لأَنَّ زَمَنَ الرَّحْمَةِ قَدْ مَضَى، وَحَلَّ زَمَنُ الدِّينُونَةِ. باختصار، الغَنِيُّ الَّذِي كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَى نَسَبِهِ الإِبْرَاهِيمِيِّ وَيَتَكَلُّ عَلَى غِنَاهُ، أَصْبَحَ مُعْوِزًا لِقَطْرَةِ مَاءٍ. وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّ الخَلَاصَ لَيْسَ بِالنَّسَبِ وَلَا بِالمَقَامِ، بَلْ بِالتَّوْبَةِ وَالأَعْمَالِ وَالمَسْؤُولِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ. نُلاحِظُ أَنَّهُ في الحَياةِ ما بَعدَ المَوتِ، لَم يَطْلُبِ الغَنِيُّ شَيئًا عَظيمًا: فَهُوَ أَيْضًا يَلتَمِسُ الرَّحمَةَ، ويَرجُو قَطرَةَ ماءٍ تَبلُّ لِسانَهُ المُلتَهِبَ. ولَكِنَّ الهَاوِيَةَ الَّتي حَفَرَها بِنَفسِهِ طُوالَ حَياتِهِ، بِقَسوَتِهِ وَعَدَمِ مَحبَّتِهِ، جَعَلَت حتّى أَبْسَطَ الأُمورِ مُستَحيلَةً. البابُ الَّذي أَغلَقَهُ في وَجهِ لَعازَرَ في هذِهِ الحَياةِ، بَقِيَ مُغْلَقًا أَبَدًا، لأَنَّ الأَبَدِيَّةَ ما هِيَ إِلّا صَدى لاخْتِياراتِنا الحاضِرَة.
25 فقالَ إِبراهيم: يا بُنَيَّ، تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلتَ خَيراتِكَ في حَياتِكَ ونالَ لَعاَزرُ البَلايا. أَمَّا اليَومَ فهو ههُنا يُعزَّى وأَنت تُعَذَّب.
“يَا بُنَيَّ” كَلِمَةُ مَحَبَّةٍ يَنْطِقُ بِهَا إِبْرَاهِيمُ، وَلَا يُنْكِرُ بُنُوَّةَ الغَنِيِّ لَهُ حَسَبَ الجَسَدِ. وَلَكِنَّ هَذِهِ البُنُوَّةَ لَمْ تَنْفَعْهُ، بَلْ أَصْبَحَتْ شَاهِدًا عَلَيْهِ، لأَنَّهُ لَمْ يَسْلُكْ بِرُوحِ أَبِيهِ وَبِإِيمَانِهِ.
“تَذَكَّرْ” تَدْعُوهُ الذِّكْرَى لِمَاضِيهِ عَلَى الأَرْضِ: قَدِ ابْتَهَجَ بِغِنَاهُ، وَاسْتَوْفَى خَيْرَاتِهِ. فَذِكْرَى الفُرَصِ الَّتِي أُتِيحَتْ وَلَمْ يَغْتَنِمْهَا، وَالخَطَايَا الَّتِي ارْتَكَبَهَا، تُصْبِحُ هِيَ العَذَابَ الأَشَدَّ فِي الأَبَدِيَّةِ. وَهَذَا مَا يُوَافِقُ مَا جَاءَ فِي الأَمْثَال: “كَيْفَ مَقَتْتُ التَّأْدِيبَ، وَاسْتَهَانَ قَلْبِي بِالتَّوْبِيخِ، وَلَمْ أَسْتَمِعْ لِصَوْتِ الَّذِينَ عَلَّمُونِي، وَلَا أَمَلْتُ أُذُنَيَّ إِلَى الَّذِينَ أَدَّبُونِي، حَتَّى لَقَدْ كِدْتُ أَكُونُ فِي أَشَدِّ الشَّرِّ فِي وَسْطِ المَحْفِلِ وَالجَمَاعَةِ” (أمثال 5: 12-14).
“نِلْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ” أَيْ إِنَّ الإِنْسَانَ يَنَالُ مَا اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ. فَالغَنِيُّ نَالَ نَصِيبَهُ مِنَ المَسَرَّاتِ الزَّمَنِيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ يَنْتَظِرُهُ فِي الأَبَدِيَّةِ، لأَنَّ زَمَنَ الرَّحْمَةِ قَدْ مَضَى. وَمَا أَخَذَهُ نُسِبَ إِلَيْهِ، لأَنَّهُ اخْتَارَهُ نَصِيبًا لَهُ دُونَ سِوَاهُ.
“نَالَ لِعَازَرُ البَلايَا” أَيْ الفَقْرَ وَالجُوعَ وَالمَرَضَ. وَكَانَ الغَنِيُّ يَعْتَبِرُهَا شُرُورًا وَدَلِيلَ لَعْنَةٍ، لَكِنَّهَا فِي الحَقِيقَةِ كَانَتْ مَدْرَسَةَ صَبْرٍ وَاتِّكَالٍ عَلَى اللهِ.
“أَمَّا اليَوْمَ فَهُوَ هَهُنَا” تُشِيرُ إِلَى انْقِلَابِ الزَّمَنِ وَالمَكَانِ والأدوار: لِعَازَرُ فِي المَجْدِ، وَالغَنِيُّ فِي العَذَابِ. هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الوَقْتَ لَا يَسِيرُ عَلَى وَتِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ لَهُ مُفَاجَآتُهُ وَقَلْبُهُ لِلْمَوَازِينِ.
“يُعَزَّى وَأَنْتَ تُعَذَّبُ” مَبْدَأٌ إِلَهِيٌّ يَكْشِفُ انْقِلَابَ الأَوْضَاعِ بَعْدَ المَوْتِ: الفَقِيرُ يُعَزَّى، وَالغَنِيُّ يُعَذَّبُ. وَهَذَا تَفْسِيرٌ حَيٌّ لِكَلِمَاتِ يَسُوعَ: “طُوبَى لَكُمْ أَيُّهَا الفُقَرَاءُ، فَإِنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ… وَلَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، فَقَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ” (لوقا 6: 20، 24). وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ نَشِيدُ العَذْرَاء: “أَشْبَعَ الجِيَاعَ مِنَ الخَيْرَاتِ، وَالأَغْنِيَاءُ صَرَفَهُمْ فَارِغِينَ” (لوقا 1: 53). يَقُولُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِيرُ: ” قَدْ قَدَّمْتَ خَيْرَاتِكَ لِشَهَوَاتِكَ وَلِلْمُتَمَلِّقِينَ، وَلَمْ تَذْكُرْ مَرَّةً وَاحِدَةً المَرِيضَ وَالمُتَأَلِّمَ، لَمْ تُشْفِقْ عَلَى لِعَازَرَ وَهُوَ مَطْرُوحٌ عِنْدَ أَبْوَابِكَ”. وَيَقُولُ الرَّسُولُ يَعْقُوبُ: “لأَنَّ الدِّينُونَةَ لَا رَحْمَةَ فِيهَا لِمَنْ لَمْ يَرْحَمْ” (يَعْقُوب 2: 13). باختصار، المَوْتُ يَقْلِبُ المَوَازِين: الغَنِيُّ الَّذِي تَمَتَّعَ بِخَيْرَاتِهِ عَلَى الأَرْضِ دُونَ رَحْمَةٍ، يُعَذَّبُ. أَمَّا لِعَازَرُ الَّذِي قَاسَى البَلايَا مُتَّكِلًا عَلَى اللهِ، فَقَدْ نَالَ العَزَاءَ الأَبَدِيَّ. وَهَكَذَا يُصْبِحُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي المَكَانِ الَّذِي بَنَاهُ بِيَدَيْهِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ.
26 ومع هذا كُلِّه، فبَيننا وبَينَكم أُقيمَت هُوَّةٌ عَميقة، لِكَيلا يَستَطيعَ الَّذينَ يُريدونَ الاجتِيازَ مِن هُنا إِلَيكُم أَن يَفعَلوا ولِكَيلا يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا.
“هُوَّةٌ عَمِيقَة” الأَصْلُ اليُونَانِيّ: χάσμα μέγα ἐστήρικται، وَمَعْنَاهُ فَجْوَةٌ كَبِيرَةٌ لَا جِسْرَ عَلَيْهَا. وَتُسْتَخْدَمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى فَاصِلٍ مَانِعٍ بَيْنَ مَكَانَيْنِ أَوْ حَالَتَيْنِ. تُظْهِرُ “الهُوَّةُ” أَنَّ الحُكْمَ الإِلَهِيَّ ثَابِتٌ وَنَهَائِيٌّ: فَمَا بَعْدَ المَوْتِ لَا يُوجَدُ تَغْيِيرٌ أَوْ مُرَاجَعَةٌ، وَلَا مَكَانَ لِلتَّوْبَةِ أَوْ الاِسْتِدْرَاكِ. وهِيَ رَمْزٌ لِـ عَدْلِ اللهِ: فِي الحَيَاةِ الأَرْضِيَّةِ كَانَ الغَنِيُّ هُوَ الَّذِي أَقَامَ هُوَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ لِعَازَر، بِالإِهْمَالِ وَاللاَّمُبَالَاةِ. بَعْدَ المَوْتِ أَصْبَحَتِ الهُوَّةُ حَقِيقَةً أَبَدِيَّةً لَا يُمْكِنُ اجْتِيَازُهَا.
تُعْبِّرُ “العَمِيقَة” عَنْ الفَاصِلِ الجَذْرِيِّ بَيْنَ مَصِيرِ الأَبْرَارِ وَالأَشْرَارِ: الأَوَّلُونَ فِي التَّعْزِيَةِ وَالمَجْدِ، وَالثَّانُونَ فِي العَذَابِ وَالحِرْمَانِ. الهُوَّةُ العَمِيقَةُ تَذْكِيرٌ صَارِخٌ أَنَّ زَمَنَ الرَّحْمَةِ هُوَ الحَيَاةُ الحَاضِرَة. تَجْسِيدٌ أَبَدِيٌّ لاِخْتِيَارِ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ. مَا يَغْرِسُهُ فِي الزَّمَنِ يَحْصُدُهُ فِي الأَبَدِيَّةِ، وَلَا مَجَالَ بَعْدَ المَوْتِ لِلتَّوْبَةِ أَوْ لِتَبْدِيلِ النَّصِيبِ. يَقُولُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: “الهُوَّةُ العَمِيقَةُ هِيَ اخْتِلَافُ الإِرَادَةِ وَالحَيَاةِ: هُنَاكَ مَنْ أَحَبَّ اللهَ فَوَجَدَ الرَّاحَةَ، وَهُنَاكَ مَنْ أَحَبَّ العَالَمَ فَوَجَدَ العَذَابَ. فَالفَارِقُ الَّذِي وُجِدَ فِي القَلْبِ عَلَى الأَرْضِ أَصْبَحَ هُوَّةً فِي الأَبَدِيَّةِ”. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ غِرِيغُورْيُوس الكَبِير: “الهُوَّةُ العَمِيقَةُ هِيَ القَطِيعَةُ النَّهَائِيَّةُ بَيْنَ رَحْمَةِ اللهِ وَدَيْنُونَتِهِ، لَا يُمْكِنُ بَعْدَ المَوْتِ أَنْ يُعْبَرَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ” تَدُلُّ الهوة عَلَى الاِسْتِحَالَةِ الكَامِلَةِ لِتَبَدُّلِ حَالَةِ الرَّاقِدِ بَعْدَ المَوْتِ: فَكُلٌّ يَسْتَمِرُّ فِي مَصِيرِهِ، إِمَّا العَذَابُ أَوِ العَزَاءُ. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: “تُرْمِزُ الهُوَّةُ العَمِيقَةُ إِلَى أَنَّ الوَقْتَ قَدِ انْتَهَى، فَلَا مَجَالَ لِلتَّوْبَةِ”. وَيُؤَكِّدُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: “إِنَّ الحُكْمَ الإِلَهِيَّ لَنْ يَتَغَيَّرَ، وَلَا يُمْكِنُ لِلأَبْرَارِ أَنْ يَتَرَفَّقُوا بِأَحَدٍ وَلَوْ أَرَادُوا ذَلِكَ”. عِنْدَ المَوْتِ يَنْتَهِي زَمَنُ الرَّحْمَةِ وَيَبْدَأُ زَمَنُ العَدْلِ. فَلَا يُمْكِنُ لِلشِّرِّيرِ أَنْ يَغَادِرَ الجَحِيمَ، وَلَا لِأَبْنَاءِ المَلَكُوتِ أَنْ يَسْقُطُوا فِي الجَحِيمِ.
“لِكَيلا” الأَصْلُ اليُونَانِيّ: ὅπως، وَمَعْنَاهَا: «حَتَّى إِنَّ». تُؤَكِّدُ اِسْتِحَالَةَ العُبُورِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ فِي العَالَمِ الآخَرِ
“لِكَيلا يَستَطيعَ” تُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَصِيرَ الإِنْسَانِ يُحَدَّدُ عِنْدَ سَاعَةِ المَوْتِ، وَبَعْدَهَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الاِخْتِيَارِ. فَمَا زَرَعَهُ عَلَى الأَرْضِ يَحْصُدُهُ فِي الأَبَدِيَّةِ. وَيَقُولُ الأَبُ ثِيؤفْلاَكْتِيُوس: “هَذَا الحَدِيثُ يَكْشِفُ خَطَأَ أَتْبَاعِ أُورِيجَانُوسَ القَائِلِينَ بِأَنَّ الكُلَّ سَيَتَجَدَّدُونَ عِنْدَ مَجِيءِ المَسِيحِ الأَخِيرِ، وَلَا يَهْلِكُ أَحَدٌ”.
“يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا” تُشِيرُ إِلَى ثَبَاتِ المَصِيرِ وَعَدَمِ إِمْكَانِيَّةِ الرُّجُوعِ. هُوَ رَدٌّ لَاهُوتِيٌّ عَلَى أَصْحَابِ عَقِيدَةِ الأَلْفِيَّة الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ بِأَنَّ يَسُوعَ سَيُقِيمُ مَمْلَكَةً أَرْضِيَّةً مُدَّتُهَا أَلْفُ سَنَةٍ، وَأَنَّ الأَشْرَارَ سَيُعْطَوْنَ فُرْصَةً جَدِيدَةً بَعْدَهَا. وَالحَقُّ أَنَّ: المَصِيرَ يُحَدَّدُ عِنْدَ المَوْتِ، وَلَا رُجُوعَ بَعْدَ ذَلِكَ. الهُوَّةُ العَمِيقَةُ الَّتِي لَمْ يَرْدُمْهَا الغَنِيُّ بِالمَحَبَّةِ وَالمُسَاعَدَةِ عَلَى الأَرْضِ، أَصْبَحَتْ هُوَّةً أَبَدِيَّةً تَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لِعَازَرَ. فَالَّذِي لَمْ يَرَ اللهَ فِي أَخِيهِ الفَقِيرِ، لَنْ يَرَ اللهَ فِي المَجْدِ. باختصار، الهُوَّةُ العَمِيقَةُ هِيَ تَجْسِيدٌ أَبَدِيٌّ لاِخْتِيَارِ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ. مَا يَغْرِسُهُ فِي الزَّمَنِ يَحْصُدُهُ فِي الأَبَدِيَّةِ، وَلَا مَجَالَ بَعْدَ المَوْتِ لِلتَّوْبَةِ أَوْ لِتَبْدِيلِ النَّصِيبِ. الهُوَّةُ العَمِيقَةُ تَذْكِيرٌ صَارِخٌ أَنَّ زَمَنَ الرَّحْمَةِ هُوَ الحَيَاةُ الحَاضِرَة. بَعْدَ المَوْتِ يُصْبِحُ الفَاصِلُ أَبَدِيًّا: لَا جِسْرَ بَيْنَ التَّعْزِيَةِ وَالعَذَابِ. فَكُلُّ إِنْسَانٍ يَحْصُلُ عَلَى نَصِيبِهِ الَّذِي بَنَاهُ بِيَدَيْهِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ.
27 فقال: أَسأَلُكَ إِذاً يا أَبتِ أَن تُرسِلَه إلى بَيتِ أَبي،
تُشِيرُ إِلَى الشَّفَاعَةِ، أَيْ التَّوَسُّطِ لِلآخَرِينَ جَلْبًا لِمَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعًا لِمَضَرَّةٍ. فَبَعْدَ أَنْ يَئِسَ الغَنِيُّ مِنِ اسْتِجَابَةِ طَلَبِهِ لِنَفْسِهِ، يَتَذَكَّرُ إِخْوَتَهُ وَيَطْلُبُ رَحْمَةً لَهُمْ مُسْتَشْفِعًا فِي إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُرْسِلَ لِعَازَرَ إِلَيْهِمْ. الغَنِيُّ الَّذِي كَانَ بِلَا مَحَبَّةٍ فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يُعْنَ بِإِخْوَتِهِ الفُقَرَاءِ عَلَى الأَرْضِ، يَظْهَرُ الآنَ وَهُوَ فِي الجَحِيمِ مُتَذَكِّرًا إِخْوَتَهُ الخَمْسَة. فَكَمْ بِالحَرِيِّ، إِذًا، المَلاَئِكَةُ وَالقِدِّيسُونَ الأَبْرَارُ الَّذِينَ يَتَشَفَّعُونَ فِي البَشَرِ بِدَافِعِ المَحَبَّةِ الحَقِيقِيَّةِ! يُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: ” إِذَا طَلَبَ الغَنِيُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يُرْسِلَ لِعَازَرَ إِلَى إِخْوَتِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ حَسِبَ نَفْسَهُ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لِلشَّهَادَةِ لِلْحَقِّ” فَالغَنِيُّ أَدْرَكَ، وَهُوَ فِي مَوْقِفِ الدِّينُونَةِ، أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِصَوْتِهِ بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ، فَالَّذِي لَمْ يَسْتَجِبْ فِي الحَيَاةِ لِصَوْتِ الأَنْبِيَاءِ، لَا يَسْتَحِقُّ الآنَ أَنْ يَشْهَدَ لِلْحَقِّ. فِي الأَبَدِيَّةِ يُصْبِحُ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ وَعْيًا لِمَسْؤُولِيَّةِ الشَّهَادَةِ. وَالمُفَارَقَةُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لِلحَقِّ فِي الحَيَاةِ، يُدْرِكُ فِي الجَحِيمِ أَنَّهُ ضَيَّعَ فُرْصَةَ إِنْذَارِ إِخْوَتِهِ. وَهَذَا يُؤَكِّدُ أَنَّ زَمَنَ الشَّهَادَةِ وَالتَّبْلِيغِ وَالدَّعْوَةِ هُوَ الحَيَاةُ الحَاضِرَةُ، لَا مَا بَعْدَ المَوْتِ. الغَنِيُّ الَّذِي لَمْ يُعْنَ بِأَحَدٍ فِي حَيَاتِهِ، يُحَاوِلُ الآنَ – وَهُوَ فِي مَوْقِفِ العَجْزِ – أَنْ يَسْتَشْفِعَ فِي إِخْوَتِهِ. لَكِنَّهُ يَجِدُ أَنَّ الكَلِمَةَ الأَخِيرَةَ هِيَ: “عِنْدَهُم موسى وَالأَنْبِيَاء، فَلْيَسْمَعُوا مِنْهُم” (لوقا 16: 29).
28 فإِنَّ لي خَمسَةَ إِخَوة. فَلْيُنذِرْهُم لِئَلاَّ يَصيروا هُم أَيضاً إلى مَكانِ العَذابِ هذا.
“خَمْسَةَ إِخْوَة” تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الغَنِيَّ هُوَ السَّادِسُ بَيْنَ إِخْوَتِهِ. فَلَوْ أَنَّهُمْ جَمِيعًا قَبِلُوا لِعَازَرَ وَرَحَّبُوا بِهِ، لَأَصْبَحُوا سَبْعَةً، وَهُوَ رَقْمُ الكَمَالِ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ، أَيْ الجَمَاعَةُ الكَامِلَةُ الَّتِي تَدْخُلُ المَلَكُوتَ. يُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: “مَنْ هُمْ هَؤُلَاءِ الإِخْوَةُ الخَمْسَةُ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ لِيَخْلُصُوا؟ إِنَّهُمُ اليَهُودُ الَّذِينَ يُرْمَزُ لَهُمْ بِرَقْمِ خَمْسَة، لأَنَّهُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ المُسَجَّلِ فِي أَسْفَارِ مُوسَى الخَمْسَة”. نَحْنُ أَيْضًا نُشْبِهُ هَؤُلَاءِ الإِخْوَةَ الخَمْسَة: نَرَى كَثِيرِينَ يَمُوتُونَ قُدَّامَنَا، وَلَكِنَّنَا نَلْبَثُ بَعِيدِينَ عَنْ سَمَاعِ كَلِمَةِ اللهِ وَعَنِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. فَمَاذَا نَنْتَظِرُ؟
“فَلْيُنْذِرْهُمْ لِئَلَّا يَصِيرُوا هُمْ أَيْضًا إِلَى مَكَانِ العَذَابِ هَذَا” تُبَيِّنُ رَغْبَةَ الغَنِيِّ فِي إِرْسَالِ لِعَازَرَ كَنَذِيرٍ وَمُبَشِّرٍ لإِخْوَتِهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ تَحْيَا بَعْدَ المَوْتِ، وَأَنَّ مَصِيرَ الغَنِيِّ التَّعِيسَ يُصْبِحُ إِنْذَارًا لِلأَحْيَاءِ. مَعْنَى الطَّلَبِ هُوَ التَّأْكِيدُ عَلَى أَنَّ الحَيَاةَ الحَاضِرَةَ هِيَ مَجَالُ التَّوْبَةِ وَالخَلاصِ. فَمَا بَعْدَ المَوْتِ، لَا عَوْدَةَ وَلَا إِنْذَارَ. إِنَّهُ تَحْذِيرٌ صَارِخٌ لِكُلِّ جِيلٍ بِأَنْ يَسْمَعَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَسْلُكْ بِهَا قَبْلَ فَوَاتِ الأَوَانِ. باختصار، الإِخْوَةُ الخَمْسَةُ يُمَثِّلُونَ كُلَّ مَنْ يَتَذَرَّعُ بِالانْتِمَاءِ لِلنَّامُوسِ وَالتَّقَالِيدِ، وَلَكِنَّهُ يَرْفُضُ الحَيَاةَ بِالكَلِمَةِ. وَالغَنِيُّ، الَّذِي فَقَدَ الخَلَاصَ لِنَفْسِهِ، يُرِيدُ عَلَى الأَقَلِّ أَنْ يُنْقِذَ إِخْوَتَهُ. وَمَعَ ذَلِكَ، الجَوَابُ الإِلَهِيُّ قَاطِعٌ: ” عِنْدَهُم موسى وَالأَنْبِيَاء، فَلْيَسْمَعُوا مِنْهُم”.
29 فقالَ إِبراهيم: عندَهُم موسى والأَنبِياء، فَلْيَستَمِعوا إِلَيهم.
“عِندَهُم موسى وَالأَنْبِيَاء، فَلْيَسْمَعُوا مِنْهُم” إِبْرَاهِيمُ يُؤَكِّدُ أَنَّ وَسَائِلَ الخَلاصِ وَالإِنْذَارِ مَوْجُودَةٌ مُنْذُ الآن: الكَلِمَةُ المَكْتُوبَةُ، وَصَوْتُ اللهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالأَنْبِيَاءِ. فَالأَمْرُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَيْتٍ يَقُومُ، بَلْ إِلَى أُذُنٍ صَاغِيَةٍ وَقَلْبٍ مُطِيعٍ. اليَهُودُ كَانَ عِندَهُمُ أَسْفَارُ مُوسَى الخَمْسَة وَكُتُبُ الأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ شَاهِدَةٌ عَلَى دَعْوَةِ اللهِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالحَيَاةِ البَارَّةِ. يَقُولُ المَزْمُورُ: “نِيرُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ، يُفْهِمُ البُسَطَاءَ” (مزمور 119: 130). وَيُؤَكِّدُ الرَّسُولُ بُولُس:
“لأَنَّ كُلَّ مَا سُبِقَ فَكُتِبَ، إِنَّمَا كُتِبَ لِتَعْلِيمِنَا” (رُومَا 15: 4). يَقُولُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الكَبِير: “إِنْ كَانُوا لَا يَسْتَمِعُونَ لِمُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، فَلَنْ يَقْبَلُوا وَاحِدًا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ”. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسْطِينُوس: “مَنْ يَحْتَقِرُ الكِتَابَ، فَهُوَ يَحْتَقِرُ القَائِمَ مِنَ الأَمْوَاتِ، لأَنَّ الكِتَابَ هُوَ صَوْتُ الحَيَاةِ”. الغَنِيُّ يَطْلُبُ مَعْجِزَةً (قِيَامَةَ مَيِّتٍ) كَوَسِيلَةٍ لِإِنْذَارِ إِخْوَتِهِ. وَلَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ يُبَيِّنُ أَنَّ المَعْجِزَةَ الحَقِيقِيَّةَ هِيَ الكَلِمَةُ. فَالإِيمَانُ لَا يَتَأَسَّسُ عَلَى الخَوَارِقِ، بَلْ عَلَى سَمَاعِ الكَلِمَةِ وَقَبُولِهَا. قِيَامَةُ يَسُوعَ نَفْسِهِ أَصْبَحَتْ أَعْظَمَ شَاهِدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ، كَثِيرُونَ رَفَضُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. فَإِنْ كَانَ الوَاحِدُ يَتَجَاهَلُ الكَلِمَةَ، فَـلَنْ تُفِيدَهُ حَتَّى أَعْظَمُ المُعْجزات. باختصار، إِبْرَاهِيمُ يُغْلِقُ كُلَّ بَابٍ أَمَامَ أَعْذَارِ الغَنِيِّ: فَالخَلاصُ لَيْسَ بِالمُعْجِزات، بَلْ بِسَمَاعِ الكَلِمَةِ وَالطَّاعَةِ لَهَا. مُوسَى وَالأَنْبِيَاء يَكْفُونَ، وَاليَوْمَ هِيَ الكَنِيسَةُ وَالإِنْجِيلُ اللَّذَانِ يَحْمِلَانِ لَنَا صَوْتَ اللهِ. يُصَرِّحُ إبرَاهِيمُ في هذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ لا داعيَ لِرَحيلِ لَعازَر، فَلَيسَتِ الأَعمالُ الإِعجازِيَّةُ هِيَ الّتي تُغَيِّرُ قَلبَ الإِنسان، بَلِ الكُتُبُ المُقَدَّسَةُ، وموسى (الشَّريعَةُ) ورِسالَةُ الأَنبِياءِ، هِيَ الّتي تُحَوِّلُ القَلبَ وتُقَوِّمُ الحَياةَ.
30 فقال: لا يا أَبتِ إِبراهيم، ولكِن إذا مَضى إِليهِم واحِدٌ مِنَ الأَمواتِ يَتوبون.
العِبَارَة: ” إذا مَضى إِليهِم واحِدٌ مِنَ الأَمواتِ يَتوبون” تُشِيرُ إِلَى أَنَّ إِقَامَةَ مَيِّتٍ لَنْ تَكُونَ سَبَبًا فِي تَوْبَةِ أَحَدٍ إِذَا كَانَ القَلْبُ قَاسِيًا. الغَنِيُّ هُنَا يُرَدِّدُ مَطْلَبَ الفَرِّيسِيِّينَ وَاليَهُودِ الَّذِينَ طَلَبُوا آيَةً خَاصَّةً كَبُرْهَانٍ لِلإِعْلاَنِ الإِلَهِيّ: “دَنا الفِرِّيسِيُّونَ وَالصَّدُّوقِيُّونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُحْرِجُوهُ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُرِيَهُم آيَةً مِنَ السَّمَاءِ” (مَتَّى 16: 1). أَقَامَ الرَّبُّ يَسُوعُ لِعَازَرَ أَخَا مَرْيَمَ وَمَرْثَا مِنَ الأَمْوَاتِ (يُوحَنَّا 11: 46)، وَمَعَ ذَلِكَ، بَدَلًا مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَكَّرَ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ فِي قَتْلِهِ (يُوحَنَّا 12: 10). الفَرِّيسِيُّونَ أَيْضًا طَالَبُوا الرَّبَّ يَسُوعَ بِالعَجَائِبِ، وَلَكِنَّهُ رَفَضَ أَنْ يَكُونَ الإِيمَانُ قَائِمًا عَلَى الآيَاتِ فَقَط: “فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ، وَقَالَ: لِمَاذَا يَطْلُبُ هذَا الجِيلُ آيَةً؟ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هذَا الجِيلُ آيَةً ” (مَرْقُس 8: 11-12). يَقُولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَم: “حَقًّا إِنَّ مَنْ لَا يَسْمَعُ لِلكُتُبِ المُقَدَّسَةِ لَا يُبَالِي بِالمَيِّتِ الَّذِي يَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ. هذَا مَا يَشْهَدُ لَهُ اليَهُودُ، إِذْ أَرَادُوا مَرَّةً أَنْ يَقْتُلُوا لِعَازَرَ الَّذِي أَقَامَهُ السَّيِّدُ مِنَ المَوْتِ”. الغَنِيُّ يَعْكِسُ مَنْطِقَ كَثِيرٍ مِنْ مَسِيحِيِّي اليَوم: “كَيْفَ نُؤْمِنُ دُونَ عَجَائِب؟” وَالرَّدُّ جَلِيّ: الكِتَابُ المُقَدَّسُ يَكْفِي لِيَقُودَنَا إِلَى الخَلاصِ. الإِيمَانُ يَبْنِي عَلَى الكَلِمَةِ، لا عَلَى المُعْجِزَةِ. باختصار، لَا تُقَسِّي قَلْبَكَ بِطَلَبِ الآيَاتِ، فَالكَلِمَةُ مَوْجُودَةٌ وَحَيَّةٌ. مَنْ يَحْتَقِرُ الكِتَابَ، فَحَتَّى وَلَوْ قَامَ مَيِّتٌ أَمَامَهُ، لَنْ يُؤْمِنَ.
31 فقالَ له: إِن لم يَستَمِعوا إلى موسى والأَنبِياء، لا يَقَتَنِعوا ولو قامَ واحِدٌ مِنَ الأَموات.
“مُوسى وَالأَنْبِيَاء” تُشِيرُ إِلَى الكِتَابِ المُقَدَّسِ الَّذِي كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَأْثِيرِ النُّفُوسِ أَكْثَرَ مِنْ إِقَامَةِ مَيِّتٍ. فَمَا مِنْ إِيمَانٍ حَقِيقِيٍّ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى كَلِمَةِ اللهِ المُعْلَنَةِ عَنْ طَرِيقِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَفِي كَمَالِهَا عَنْ طَرِيقِ الرَّبِّ يَسُوعَ نَفْسِهِ: “إِنْجِيلُ المَسِيحِ هُوَ قُوَّةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن” (رُومَا 1: 16). قِيَامَةُ المَسِيحِ هِيَ العَلَامَةُ القَاطِعَةُ، وَلَكِنَّهَا مَعَ ذَلِكَ لَمْ تُقْنِعِ اليَهُودَ. قَالَ الرَّبُّ: “لَوْ كُنتُم تُؤمِنُونَ بِمُوسَى لآمَنتُم بِي، لأَنَّهُ فِي شَأْنِي كَتَب” (يُوحَنَّا 5: 46). فَالَّذِينَ يَرْفُضُونَ العَهْدَ القَدِيمَ سَيَرْفُضُونَ حَتَّى النُّورَ الأَعْظَمَ، أَيْ شَهَادَةَ القَائِمِ مِنَ الأَمْوَاتِ.
“لَا يَقْتَنِعوا”(πείσθονται) فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ تَعْنِي: لَا يَقْتَنِعُونَ بِخَطَايَاهُم، وَلَا بِجَهْلِهِم، وَلَا بِوَاجِبِ التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ. فَالمُشْكِلَةُ لَيْسَتْ فِي قِلَّةِ البَرَاهِينِ، بَلْ فِي قَسَاوَةِ القُلُوبِ وَعَمَى العُيُونِ. يَسُوعُ فَسَّرَ لِتِلْمِيذَي عِمَّاوُس: “فَبَدَأَ مِن مُوسى وَجَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا جَمِيعِ الكُتُبِ مَا يَخْتَصُّ بِي” (لُوقَا 24: 27). وَأَكَّدَ لِتَلاَمِيذِهِ: “صَدِّقُونِي: إِنِّي فِي الآبِ وَإِنَّ الآبَ فِيَّ، وَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَصَدِّقُوا مِنْ أَجْلِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا “(يُوحَنَّا 14: 11). قِيَامَةُ لِعَازَرَ (أَخُو مَرْيَمَ وَمَرْثَا) لَمْ تَقُدِ اليَهُودَ لِلتَّوْبَةِ، بَلْ لِلتَّآمُرِ عَلَى قَتْلِ يَسُوعَ وَحَتَّى لِقَتْلِ لِعَازَرَ نَفْسِهِ (يُوحَنَّا 11: 47؛ 12: 10). وَقِيَامَةُ يَسُوعَ نَفْسِهِ لَمْ تُقْنِعِ الحُرَّاسَ وَرُؤَسَاءَ الكَهَنَةِ، بَلْ أَخَذُوا رِشْوَةً لِيُنْكِرُوا الحَقِيقَةَ (مَتَّى 28: 11-15). في الكَنِيسَةِ لا نَنْتَظِرُ أَنْ يَقُومَ قِدِّيسٌ مِنَ الأَمْوَاتِ لِيُخْبِرَنَا عَنِ الأَبَدِيَّةِ. لَدَيْنَا الكِتَابُ المُقَدَّسُ، وَسِيَرُ الأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالقِدِّيسِينَ، وَتَعَالِيمُهُم الَّتِي تُثَبِّتُ إِيمَانَنَا وَتَقُودُنَا لِلتَّوْبَةِ وَالخَلاصِ. باختصار، المُعْجِزَاتُ لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي تُنْشِئُ الإِيمَانَ، بَلْ الكَلِمَةُ الحَيَّةُ. مَنْ يَرْفُضُ الكِتَابَ، لَا يُقْنِعُهُ حَتَّى وَاحِدٌ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. وَمِنْ هُنَا، يُصْبِحُ الطَّرِيقُ وَاضِحًا: التَّوْبَةُ وَالإِيمَانُ بِكَلِمَةِ اللهِ هُمَا سَبِيلُ النَّجَاةِ مِنَ الدَّيْنُونَةِ وَنَيْلُ الخَلاصِ الأَبَدِيّ. في واقِعِ الأَمرِ، قامَ ابنُ الإِنسانِ مِن بَينِ الأَموات. وتُصبِحُ قِيامَتُهُ جَوهَرَ إِيمانِنا حينَ نَتَمَكَّنُ مِن أَن نَصيرَ رُفَقاءَ القائِمِ، ونَدَعَهُ يُفَسِّرُ لَنا الكُتُبَ المُقَدَّسَةَ الّتي أَتَمَّها لأَجلِنا (لوقا 24: 27). فالكُتُبُ المُقَدَّسَةُ هي الّتي تُنَبِّهُنا لِنَعيشَ حَقًّا حَياةً مَعَ إِخوَتِنا، ومَعَ اللهِ، ومَعَ ذَواتِنا.
ثانِيًا: تَطْبِيقُ النَّصِّ الإِنْجِيلِيِّ (لُوقا 16: 19-31)
يَكْشِفُ هَذَا المَثَلُ الإِنْجِيلِيُّ عَنِ التَّحَوُّلِ الجَذْرِيِّ الَّذِي يَعِيشُهُ الإِنْسَانُ عِنْدَ انْتِقَالِهِ مِنَ الحَيَاةِ الأَرْضِيَّةِ إِلَى الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. فَالمَصِيرُ النِّهَائِيُّ لا يَتَوَقَّفُ عَلَى امْتِلاَكِ المَالِ أَوْ فَقْدَانِهِ، بَلْ عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي اسْتُخْدِمَ بِهَا: هَلْ كَانَ وَسِيلَةً لِلأَنَانِيَّةِ وَالتَّرَفِ، أَمْ أَدَاةً لِلْمَحَبَّةِ وَالخِدْمَةِ وَمُسَاعَدَةِ القَرِيبِ المُحْتَاجِ؟
المَشهَدُ الأَوَّلُ: حَيَاةُ الغَنِيِّ وَالفَقِيرِ لِعَازَرَ عَلَى الأَرْضِ (لُوقا 16: 19-22)
يَصِفُ المَثَلُ حَيَاةَ الرَّجُلِ الغَنِيِّ وَنَفْسِيَّتَهُ وَخَطِيئَتَهُ. فَاسْمُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، لأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ تَرْكِيزٌ عَلَى هُوِيَّتِهِ وَشَخْصِهِ، بَلْ عَلَى مَا يَمْلِكُ، إِذْ إِنَّ حَيَاتَهُ مُرْتَكِزَةٌ عَلَى الغِنَى المَادِيِّ. وَالرَّجُلُ الغَنِيُّ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ وُجُوهِ المُجْتَمَعِ، وَمِنْ ذَوِي المَكَانَةِ وَالجَاهِ، كَانَ يُعْشِقُ رَفَاهَةَ العَيْشِ وَهَمُّهُ الدُّنْيَا وَالبَذَخُ المُسْرِفُ، فَكَانَ يَرْتَدِي أَفْخَرَ الثِّيَابِ، وَيُعِدُّ أَرْوَعَ مَوَائِدِ الطَّعَامِ.
وَهُوَ دُونَ اسْمٍ، أَنَّهُ نَكِرَةٌ، حَيْثُ إِنَّ الأَنَانِيَّةَ فِي اسْتِخْدَامِ أَمْوَالِهِ أَفْقَدَتْهُ الاسْمَ، لأَنَّ الشَّخْصَ الأَنَانِيَّ يَعِيشُ وَحْدَهُ، وَلا مَجَالَ لأَيَّةِ عَلاقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الآخَرِينَ، خَاصَّةً الفُقَرَاءِ وَالمُحْتَاجِينَ، وَمِنْ بَيْنِهِمْ لِعَازَرُ الفَقِيرُ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الكَبِيرُ بِقَوْلِهِ: “إِنَّ الغَنِيَّ كَوْنُهُ غَيْرَ رَحِيمٍ كَانَ فِي حَضْرَةِ اللهِ بِلاَ اسْمٍ، إِذْ قِيلَ بِصَوْتِ المُرَتِّلِ عَنِ الَّذِينَ لا يَخَافُونَ الرَّبَّ: “بِشَفَتَيَّ أَسْمَاءَهُمْ لا أَذْكُرْ” (مَزَامِير 16: 4).
أَمَّا فَلْسَفَةُ الرَّجُلِ الغَنِيِّ فَتَقُومُ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ مَوْجُودٌ عَلَى الأَرْضِ لِكَيْ يَتَنَعَّمَ وَيَتَلَذَّذَ، بِحَسَبِ مَبْدَإِ الشَّاعِرِ الرُّومَانِيِّ (Horace) هُورَاس Carpe Diem أ (أَيْ عِشْ يَوْمَكَ، لِنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ وَنَمْرَحْ لأَنَّنَا غَدًا نَمُوتُ”. وَقَدْ وَصَفَ صَاحِبُ سِفْرِ الحِكْمَةِ هَذِهِ الفَلْسَفَةَ بِقَوْلِهِ: “فَإِنَّ أَيَّامَنَا مَرُورُ الظِّلِّ، وَنِهَايَتَنَا بِلاَ رَجْعَةٍ، لأَنَّهُ مَخْتُومٌ عَلَيْهَا فَمَا مِنْ أَحَدٍ يَعُودُ. فَتَعَالَوْا نَتَمَتَّعْ بِالطَّيِّبَاتِ الحَاضِرَةِ، وَنَنْتَفِعْ مِنَ الخَلِيقَةِ بِحَمِيَّةِ الشَّبَابِ. لِنَسْكَرْ مِنَ الخَمْرِ الفَاخِرَةِ وَالعُطُورِ، وَلا تَفُتْنَا زَهْرَةُ الرَّبِيعِ. وَلْنَتَكَلَّلْ بِبَرَاعِمِ الوَرْدِ قَبْلَ ذُبُولِهَا. وَلا يَكُنْ فِينَا مَنْ لا يُشَارِكُ فِي قَصْفِنَا. لِنَظْلِمِ البَارَّ الفَقِيرَ، وَلا نُشْفِقْ عَلَى الأَرْمَلَةِ، وَلا نَهَابْ شَيْبَةَ الشَّيْخِ الكَثِيرَةِ الأَيَّامِ” (الحِكْمَةُ 2: 5-10).
وَيُحَذِّرُ مُوسَى النَّبِيُّ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: “إِنَّهُ مَتَى أَكَلْتَ وَشَرِبْتَ تَنَبَّهْ لِئَلاَّ تَنْسَى الرَّبَّ إِلَهَكَ” (تَثْنِيَةُ الاِشْتِرَاعِ 8: 11). فَإِنَّنَا لَمْ نُولَدْ وَلا نَعِيشُ لِكَيْ نَأْكُلَ وَنَشْرَبَ، إِنَّمَا نَأْكُلُ وَنَشْرَبُ لِكَيْ نَعِيشَ.
لَمْ يَذْكُرْ يَسُوعُ أَيَّ خَطَايَا لِلْغَنِيِّ، سِوَى أَنَّهُ عَاشَ لِنَفْسِهِ وَأَهْمَلَ الفَقِيرَ الَّذِي عَلَى بَابِهِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الاِحْتِيَاجِ إِلَيْهِ. لَمْ يَسْتَعْمِلْ الغَنِيُّ أَمْلاَكَهُ لِيُعَزِّيهِ، وَلَمْ يَفْتَحْ بَيْتَهُ كَيْ يَدْخُلَ لِعَازَرُ إِلَيْهِ، بَلْ عَامَلَهُ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَكَأَنَّهُ أَقَامَ هُوَّةً عَمِيقَةً بَيْنَهُمَا. وَهَذِهِ الهُوَّةُ نَفْسُهَا تَفْصِلُ بَيْتَ هَاتَيْنِ الشَّخْصِيَّتَيْنِ بَعْدَ المَوْتِ. وَيُعَلِّقُ العَلاَّمَةُ إِيرُونِيمُوس: “إِنَّ العَيْبَ لَيْسَ فِي الغِنَى عِنْدَ الرَّجُلِ المُوسِرِ، بَلْ فِي قَسَاوَتِهِ وَتَصَلُّبِهِ وَعَدَمِ شُعُورِهِ مَعَ المِسْكِينِ، وَعَدَمِ مُؤَازَرَتِهِ لِلْمُعْوِزِ المُسَمَّى لِعَازَرَ” (فِي عِظَتِهِ رَقْم 86). فَخَطِيئَتُهُ هِيَ الإِهْمَالُ، إِهْمَالُهُ لِلْقَرِيبِ وَتَجَاهُلُهُ لِعَازَرَ الفَقِيرِ، وَاللَّامُبَالاةُ فِي تَعَامُلِهِ مَعَهُ. وَاللَّامُبَالاةُ تَعْتَبِرُ أَنَّ الآخَرَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وَهُنَا تَظْهَرُ أَهَمِّيَّةُ الوَصِيَّةِ: «أَحْبِبْ قَرِيبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ» (لُوقا 10: 27).
خطيئة الغني ليست الغنى بحدّ ذاته. خَطيئَةُ الرَّجُلِ الغَنِيِّ لَيْسَتْ أَنَّهُ فَعَلَ شَرًّا، بَلْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ خَيْرًا. فَلَمْ تُقَمْ عَلَيْهِ تُهَمٌ، وَلَمْ تُلْصَقْ بِأَخْلَاقِهِ وَصْفَةٌ تُشِينُهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ أَنَّهُ اكْتَسَبَ مَالَهُ بِطُرُقٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ.
فالغِنَى فِي الْعَقْلِيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ كَانَ يُعْتَبَرُ عَلاَمَةَ بَرَكَةٍ وَرِضَى مِنَ اللهِ؛ فَإِبْرَاهِيمُ كَانَ غَنِيًّا، وَأَيُّوبُ كَانَ غَنِيًّا، وَلَعَازَرُ صَدِيقُ يَسُوعَ كَانَ غَنِيًّا. ويُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ بُطْرُسُ خَرِيزُولُوغُس قَائِلًا: “لَمْ يَكُنْ إِبْرَاهِيمُ غَنِيًّا لِنَفْسِهِ، بَلْ لِلْفُقَرَاءِ؛ فَعِوَضًا عَنْ الِاحْتِفَاظِ بِثَرْوَتِهِ، عَرَضَ تَقَاسُمَهَا”. إِذًا لَيْسَتِ الْمُشْكِلَةُ فِي الْغِنَى، بَلْ فِي الاِسْتِعْمَالِ الْأَنْانِيِّ لِلثَّرْوَةِ وَاحْتِقَارِ الْفَقِيرِ.
خطيئة الرجل الغني هي القسوة وتجاهل الفقير: الغَنِيُّ كَانَ يَرَى لَعَازَرَ الْفَقِيرَ عِنْدَ بَابِهِ كُلَّ يَوْمٍ، دُونَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُهُ. وَيَقُولُ الْقِدِّيسُ بَرْنَارْدُس: “إِنْ لَمْ تُسَاعِدْ أَخَاكَ الْفَقِيرَ، فَأَنْتَ تَسْلُبُهُ حَقَّهُ وَتَقْتُلُهُ”. فَخَطِيئَتُهُ إِذًا هِيَ الْكِبْرِيَاءُ وَالْقَسَاوَةُ وَتَحَجُّرُ الْقَلْبِ. إِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ أَنَّ الْعَلاَقَةَ مَعَ اللهِ تَمُرُّ بِالضَّرُورَةِ عَبْرَ الْعَدْلِ وَالْمَحَبَّةِ نَحْوَ الْإِنْسَانِ.
وَلِذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلْغَنِيِّ فِي الْهُوَّةِ: “«تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ” (لوقا 16: 25). حَتَّى الْكِلَابُ كَانَتْ أَرْحَمَ مِنْهُ، إِذْ “كَانَتْ تَأْتِي فَتَلْحَسُ قُرُوحَ لَعَازَر” (لوقا 16: 21).
كرامة لعازر ومعنى اسمه. لِلْفَقِيرِ اسْمٌ: “لَعَازَر” (לַעְזָר)، وَمَعْنَاهُ: (اللهُ يُعِينُ»). إِنَّهُ الَّذِي لَمْ يَتَّكِلْ عَلَى نَفْسِهِ، بَلْ عَلَى اللهِ مُعِينِهِ. وَيَقُولُ الْبَابَا غِرِيغُورِيُوس: “أَشَارَ الرَّبُّ إِلَى اسْمِ الْفَقِيرِ دُونَ اسْمِ الْغَنِيِّ، إِذْ يَعْرِفُ اللهُ الْمُتَوَاضِعَ وَيُزَكِّيهِ دُونَ الْمُتَكَبِّرِ”. لِذَلِكَ لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ الْغَنِيِّ، لِأَنَّهُ فَقَدَ هُوِيَّتَهُ الْحَقِيقِيَّةَ، كَمَا قَالَ السَّيِّدُ: “مَا عَرَفْتُكُمْ قَطٌّ. اِذْهَبُوا عَنِّي أَيُّهَا الْأَثَمَةُ” (متى 7: 23).
هناك مفارقة بين حياة الغني وحياة الفقير:
- الغَنِيُّ لَابِسٌ الأُرْجُوَانَ وَالْكِتَّانَ النَّاعِمَ، أَمَّا لَعَازَرُ فَعَارٍ وَظَاهِرُ الْقُرُوحِ.
- الغَنِيُّ يَتَنَعَّمُ بِوَلَائِمَ فَاخِرَةٍ، وَالْفَقِيرُ يَشْتَهِي الْفُتَاتَ.
- الغَنِيُّ لَهُ خَدَمٌ كَثِيرُونَ، وَالْفَقِيرُ لَا خَادِمَ لَهُ إِلَّا الْكِلَابُ.
مُفَارَقَةٌ تُظْهِرُ تَفَاوُتَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ وَالْعَدْلَ الْإِلَهِيَّ فِي الْعَالَمِ الآتِي.
الفقر والغنى في المنظور الروحي: لَيْسَ كُلُّ فَقْرٍ مُقَدَّسًا، وَلَا كُلُّ غِنًى مَمْقُوتًا. ِنَّمَا الْحَيَاةُ هِيَ الَّتِي تُهَذِّبُ الْغِنَى أَوْ تُفْسِدُهُ، وَتُزَيِّنُ الْفَقْرَ أَوْ تُذِلُّهُ. يَقُولُ الْقِدِّيسُ بَاسِيلْيُوس: “لَيْسَ الْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْتَلِكُ خَيْرَاتٍ، بَلْ مَنْ اعْتَنَقَ حَالَةَ الْفَقْرِ الرُّوحِيِّ”. إِذًا الْفَقِيرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الَّذِي يَفْتَقِرُ إِلَى اللهِ، وَيَسْتَغْنِي بِهِ وَحْدَهُ. وَهَكَذَا نَفْهَمُ كَلِمَةَ الرَّبِّ: “طُوبَى لِلْفُقَرَاءِ فَإِنَّهُمْ سَيَشْبَعُونَ” (لوقا 6: 20-21). وخلاصة القول، خَطِيئَةُ الْغَنِيِّ تَكْمُنُ فِي قَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَإِغْفَالِهِ الْمُعْوِزَ الَّذِي كَانَ عِنْدَ بَابِهِ، أَمَّا فَضِيلَةُ لَعَازَر فَتَكْمُنُ فِي اتِّكَالِهِ الْمُطْلَقِ عَلَى اللهِ.
المشهد الثاني: حياة الغَنِيِّ والفقير لعازر بعد الموت (لوقا 16: 23–31)
موت الغني ودفنه: مَاتَ الغَنِيُّ وَدُفِنَ (لوقا 16: 22). وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ فَاخِرَةً تَحُفُّهَا الْعَظَمَةُ وَالْجَاهُ. ذُكِرَتْ كَلِمَةُ “دُفِنَ”، أَيْ سُتِرَ جَسَدُهُ وَأُوْرِيَ التُّرَابَ. حَضَرَ النَّائِحُونَ الْمَأْجُورُونَ وَالْدُّمُوعُ الْمُصْطَنَعَةُ، مَعَ دُمُوعِ الأَهْلِ وَالْمُحِبِّينَ. وَلَكِنْ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا حَاضِرِينَ، إِذْ لَمْ يُلاَزِمُوهُ فِي مَوْتِهِ، فَانْفِصَالُهُ عَنِ اللهِ كَانَ مُحَتَّمًا.
موت لعازر وحمله إلى حضن إبراهيم: أَمَّا لَعَازَرُ، فَلَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ عَنْ دَفْنِهِ. رُبَّمَا نَقَلَهُ ذَوُو الرَّحْمَةِ إِلَى مَقْبَرَةِ الْفُقَرَاءِ، وَلَكِنَّ الْإِنْجِيلَ يَقُولُ: “وَحِينَ مَاتَ الْفَقِيرُ، حَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ” (لوقا 16: 22). إِنَّهُ مَوْتٌ يَتَحَوَّلُ إِلَى لِقَاءٍ مَعَ الرَّبِّ، لا إِلَى فُرَاقٍ. وَيُؤَكِّدُ سِفْرُ الْحِكْمَةِ: “أَمَّا نُفُوسُ الأَبْرَارِ فَهِيَ بِيَدِ اللهِ، فَلاَ يَمَسُّهَا أَيُّ عَذَابٍ… وَلَكِنَّهُمْ فِي سَلاَمٍ… رَجَاؤُهُمْ كَانَ مَمْلُوءًا خُلُودًا” (الحكمة 3: 1–4). فَلَعَازَرُ دَخَلَ مَسْكَنَ السَّلاَمِ، حَيْثُ لَا جُوعَ وَلَا أَلَمَ وَلَا قَهْرَ.
وعي الغني بعد الموت: إِنَّ انْفِصَالَ الْغَنِيِّ عَنِ اللهِ جَعَلَهُ يُدْرِكُ وَهْمَ الثَّرْوَاتِ. فَكُلُّ وَلَائِمِهِ وَتَرَفِهِ لَمْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَغْلِبَا الْمَوْتَ. وَحِينَ رَأَى لَعَازَرَ فِي حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ، شَعَرَ بِقَسْوَةِ مَصِيرِهِ. قَالَ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَم: “عَذَابُهُ يَتَزَايَدُ بِرُؤْيَتِهِ أَفْرَاحَ الْفَقِيرِ”. أَدْرَكَ الْغَنِيُّ مُتَأَخِّرًا أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُشْرِكَ لَعَازَرَ فِي نِعَمِ اللهِ، لَكِنَّهُ فَضَّلَ الْأَنَانِيَّةَ وَالْإِهْمَالَ.
الفقراء طريق إلى الله. تُعَلِّقُ الأُمُّ تِرِيزَا قَائِلَةً: “سَوْفَ نُدْرِكُ فِي السَّمَاءِ مَا قَدَّمَهُ الْفُقَرَاءُ لَنَا، لِأَنَّهُمْ طَرِيقُنَا إِلَى قَلْبِ اللهِ”. إِنَّ الْفَقِيرَ لَا يَطْلُبُ مِنَّا صَدَقَةً فَقَطْ، بَلْ يَطْلُبُ حَقَّهُ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللهُ فِينَا. فَمَسَاعَدَتُنَا لِلْمُحْتَاجِ لَيْسَتْ عَمَلَ شَفَقَةٍ، بَلْ عَمَلَ عَدْلٍ وَرُؤْيَةٌ لِيَسُوعَ فِيهِ. وَفِي كَلِمَاتِ الأُمِّ تِرِيزَا: “أَرَى اللهَ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ. وَعِنْدَمَا أَغْسِلُ جِرَاحَ الْمُتَأَلِّمِ، أَشْعُرُ بِأَنَّنِي أُدَاوِي اللهَ نَفْسَهُ”.
مَوْتُ الْغَنِيِّ كَانَ نِهَايَةَ الْمَجْدِ الْبَشَرِيِّ وَبِدَايَةَ الْخُسْرَانِ الأَبَدِيِّ. ومَوْتُ لَعَازَر كَانَ دُخُولًا إِلَى الْحَيَاةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي حِضْنِ اللهِ. الْعَدْلُ الإِلَهِيُّ يُقَلِّبُ الْمَوَازِين: مَنْ تَغَافَلَ عَنْ مَعُونَةِ الْفُقَرَاءِ يَجِدُ نَفْسَهُ مَحْرُومًا مِنْ مَعُونَةِ اللهِ.
انقلاب الموازين في حضرة الله: قَلَبَ الْمَسِيحُ الْمَقَايِيسَ وَالْمَوَازِينَ. فَإِبْرَاهِيمُ أَبُو الْمُؤْمِنِينَ يَتَصَدَّرُ الْوَلِيمَةَ، وَإِلَى جَانِبَيْهِ فِي مَرْكَزِ الْكَرَامَةِ يَجْلِسُ لَعَازَرُ الْفَقِيرُ. هُنَا تَحَوَّلَ لَعَازَرُ فَقِيرُ الأَرْضِ إِلَى غَنِيٍّ فِي السَّمَاءِ، وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَصَارَ فَقِيرًا يَتَوَسَّلُ قَطْرَةَ مَاءٍ: “يَا أَبَتِ إِبْرَاهِيمُ، ارْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيُبَلِّ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي” (لوقا 16: 24). تَتَحَقَّقُ هُنَا كَلِمَاتُ الْحِكْمَةِ: “هُوَذَا الَّذِي كُنَّا نَجْعَلُهُ ضُحْكَةً وَمَوْضُوعَ تَهَكُّمٍ… فَكَيْفَ أَصْبَحَ فِي عِدَادِ بَنِي اللهِ وَصَارَ نَصِيبُهُ مَعَ الْقِدِّيسِينَ؟” (حكمة 5: 4–7).
الغنى يتحول فقرًا، والفقر غنى. ذَكَّرَ إِبْرَاهِيمُ الْغَنِيَّ قَائِلًا: “تَذَكَّرْ أَنَّكَ نِلْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَنَالَ لَعَازَرُ الْبَلَايَا. أَمَّا الْيَوْمَ فَهُوَ هُنَا يُعَزَّى وَأَنْتَ تُعَذَّبُ” (لوقا 16: 25). وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ أَمْبْرُوسْيُوس: “صَارَ الْغِنَى فَقْرًا، وَالْفَقْرُ غِنًى. فَقَدْ صَارَ الْغَنِيُّ فِي عَذَابٍ إِذْ حُرِمَ مِنَ الْمَلَذَّاتِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتْرَفًا، وَهُوَ الآنَ يَتُوقُ أَنْ يُبَلِّ الْفَقِيرُ طَرَفَ إِصْبَعِهِ بِمَاءٍ لِيُبَرِّدَ لِسَانَهُ”.
الهوّة العميقة بين العالمين. يُعْلِنُ إِبْرَاهِيمُ مَبْدَأَ انْقِلَابِ الأَوْضَاعِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُضِيفُ: “بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ، لِكَيْ لاَ يَسْتَطِيعَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ هُنَا إِلَيْكُمْ أَنْ يَفْعَلُوا، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا” (لوقا 16: 26). إِنَّهُ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالدَّيْنُونَةِ. فَمَصِيرُ الإِنْسَانِ فِي الأَبَدِيَّةِ يَتَطَابَقُ مَعَ اخْتِيَارِهِ فِي الزَّمَنِ. مَنْ حَفَرَ هُوَّةَ الْعُزْلَةِ هُنَا، يَجِدُهَا هُنَاكَ أَبَدِيَّةً. وَمَنْ فَتَحَ بَابَ الْمَحَبَّةِ هُنَا، يَدْخُلُ مِنْهُ هُنَاكَ.
العذاب المتعدد الأبعاد: عَذَابُ الْغَنِيِّ فِي الْهَاوِيَةِ كَانَ مُرَكَّبًا:
- عَذَابُ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ حَيَاتِهِ الْفَاخِرَةِ الْمَاضِيَةِ وَحَالِهِ الْبَائِسِ الْحَاضِرِ.
- عَذَابُ الْمُشَاهَدَةِ لِأَفْرَاحِ الْفُقَرَاءِ وَهُوَ مَحْرُومٌ مِنْهَا.
- عَذَابُ الإِحْسَاسِ بِغَضَبِ اللهِ وَبِعَدَمِ اسْتِجَابَةِ طَلَبَاتِهِ.
- عَذَابٌ بِلاَ رَجَاء، إِذْ يَرَى أَنَّ نِهَايَتَهُ أَبَدِيَّةٌ.
- وَأَيْضًا عَذَابٌ بِسَبَبِ أَخْوَتِهِ الَّذِينَ بَقُوا فِي الْعَالَمِ، إِذْ لَا سَبِيلَ أَنْ يُنْقَذُوا إِلاَّ بِالتَّوْبَةِ وَالإِيمَانِ. الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ يُحَذِّرُ: “لأَنَّ الدَّيْنُونَةَ لاَ رَحْمَةَ فِيهَا لِمَنْ لَمْ يَرْحَمْ” (يعقوب 2: 13).
يُرِينَا الْمَثَلُ أَنَّ مَصِيرَنَا الأَبَدِيَّ هُوَ نَتِيجَةُ خِيَارِنَا الْيَوْمِيِّ. مَنْ يَبْنِ الْجُسُورَ مَعَ الْمُحْتَاجِينَ يَجِدْهَا فِي الأَبَدِيَّةِ طَرِيقَ خَلَاصٍ. وَمَنْ يَبْنِ الْهُوَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُقَرَاءِ، يَجِدْهَا هُنَاكَ عَزْلَةً أَبَدِيَّةً. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ إِيرِينِيئُوس: “إِنَّ النَّفْسَ الَّتِي تَرَكَتِ الْجَسَدَ تَبْقَى خَالِدَةً، تَعْرِفُ الْغَيْرَ وَتُعْرَفُ، إِمَّا فِي الْمَلَكُوتِ وَإِمَّا فِي جَهَنَّم”. إِنَّ الْمَوْتَ لَا يُغَيِّرُ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ؛ فَمَنْ كَانَ مَعَ الْمَسِيحِ هُنَا، يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ هُنَاكَ. وَمَنْ عَادَاهُ هُنَا، يَبْقَى فِي عَدَاوَتِهِ هُنَاكَ.
المَثَلُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الاِنْقِلاَبَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ فِي الأَبَدِيَّةِ: مَنْ تَكَبَّرَ وَتَغَافَلَ هُنَا، يُذَلُّ هُنَاكَ، وَمَنْ اتَّضَعَ وَاتَّكَلَ عَلَى اللهِ هُنَا، يُكْرَمُ هُنَاكَ. فَخِيَارُنَا الْيَوْمِيُّ يُصْبِحُ مَصِيرَنَا الأَبَدِيَّ.
المشهد الرابع: طريق الخلاص (لوقا 16: 27–31)
الغني يتوسل من أجل إخوته. بعد أن يئس الغني من الخلاص، تحوَّل إلى طلبٍ آخر، وهو إنقاذ إخوته: “فَإِنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ. فَلْيُنْذِرْهُمْ لِئَلاَّ يَصِيرُوا هُمْ أَيْضًا إِلَى مَكَانِ الْعَذَابِ هَذَا” (لوقا 16: 28). هناك مَفَارَقَةٌ مُؤْلِمَة: فَاقِدُ الْخَلَاصِ يَطْلُبُ الْخَلَاصَ لِغَيْرِهِ. لَكِنْ إِبْرَاهِيمَ أَجَابَهُ أَنَّ الْإِنْذَارَ مَوْجُودٌ مُنْذُ الْقِدَمِ فِي كَلِمَةِ اللهِ: مُوسَى وَالأَنْبِيَاء، وَهُوَ كَافٍ لِإِرْشَادِ الإِنْسَانِ إِلَى الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ.
الْغَنِيُّ لَمْ يَكُنْ يَفْتَقِرُ إِلَى عَلاَمَاتٍ، بَلْ إِلَى قَلْبٍ مُنْفَتِحٍ. الْأَنَانِيَّةُ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ تَحْجُبُ عُيُونَ الإِنْسَانِ عَنْ قِرَاءَةِ “عَلاَمَاتِ اللهِ”. فَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: “إِنْ لَمْ يَسْتَمِعُوا إِلَى مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، لاَ يَقْتَنِعُوا وَلَوْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ” (لوقا 16: 31). إِنَّ مَنْ يَسُدُّ أُذُنَيْهِ عَنِ الْكَلِمَةِ الْمُوحَى بِهَا، لَنْ يُؤْمِنَ حَتَّى وَلَوْ شَاهَدَ أَعْجُوبَةَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا مَا حَدَثَ مَعَ الْفَرِّيسِيِّينَ الَّذِينَ رَأَوْا لِعَازَرَ (أَخَا مَرْيَمَ وَمَرْثَا) يَقُومُ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
كلمة الله هي أساس الخلاص. الْخَلاَصُ إِذًا لَيْسَ بِمُعَايَنَةِ الرُّؤَى وَلاَ بِالْعَجَائِبِ، بَلْ بِالْإِيمَانِ بِكَلِمَةِ اللهِ. أَسَاسُ التَّوْبَةِ هُوَ الإِيمَانُ، وَأَسَاسُ الإِيمَانِ هُوَ كَلِمَةُ اللهِ. وَيُفَرِّقُ الْكِتَابُ بَيْنَ “الاِسْتِمَاعِ” وَ”السَّمَاعِ”:
- الاِسْتِمَاعُ هُوَ الإِصْغَاءُ.
- السَّمَاعُ هُوَ الِاسْتِجَابَةُ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْكَلِمَةِ.
لِذَلِكَ يَقُولُ الرَّسُولُ يَعْقُوبُ: “كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ، خَادِعِينَ أَنْفُسَكُمْ” (يعقوب 1: 22).
الرحمة طريق التبرير: يُؤَكِّدُ الرَّبُّ فِي التَّطْوِيِبَاتِ: “طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُرْحَمُونَ” (متى 5: 7). الرَّحْمَةُ هِيَ الْبَابُ الْوَاسِعُ إِلَى قَلْبِ اللهِ. وَقَدْ أَشَارَ الْمَزَامِيرُ إِلَيْهَا مِرَارًا: “يَعْطِفُ عَلَى الْمِسْكِينِ وَيُخَلِّصُ نُفُوسَ الْمَسَاكِينِ” (مز 72: 13). “«طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَرْأَفُ وَيُقْرِضُ” (مز 112: 5). “طُولَ النَّهَارِ يَرْأَفُ الْبَارُّ وَيُقْرِضُ، وَنَسْلُهُ مُبَارَكٌ” (مز 37: 26).
ومن هنا يأتي التطبيق الرعوي كما قَالَ يَسُوعُ: “اِصْنَعُوا أَنْفُسَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِالْمَالِ الْبَاطِلِ، حَتَّى إِذَا فَنِيَ، يَقْبَلُوكُمْ فِي الْمَسَاكِنِ الأَبَدِيَّةِ” (لوقا 16: 9). إِذًا، طَرِيقُ الْخَلاَصِ لَيْسَ بِجَمْعِ الثَّرْوَاتِ وَلَا بِالْمَظَاهِرِ، بَلْ بِمُشَارَكَةِ نِعَمِ اللهِ مَعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ. وَفِي يَوْمِ رَحِيلِنَا، يَكُونُ هَؤُلَاءِ هُمُ الشُّفَعَاءُ الَّذِينَ يَسْتَقْبِلُونَنَا فِي الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ.
الخلاصُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الإِصْغَاءِ لِكَلِمَةِ اللهِ وَتَجْسِيدِهَا بِالرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ. فَمَنْ يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَعْمَلُ بِهَا، يَبْنِ حَيَاتَهُ عَلَى صَخْرَةٍ ثَابِتَةٍ، وَيَجِدُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ مَفْتُوحَةً. أَمَّا مَنْ يَسْمَعُ دُونَ أَنْ يَعْمَلَ، فَقَدْ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ، وَيَجِدُ نَفْسَهُ فِي هُوَّةٍ أَبَدِيَّةٍ.
العِبرة مِن مَثل الغَني ولعازر
أولًا: الغنى ليس علامة رضى الله بالضرورة: كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ يَعْتَبِرُونَ الْغِنَى دَلِيلًا عَلَى رِضَى اللهِ. فَجَاءَ هَذَا الْمَثَلُ صَادِمًا: فَالْفَقِيرُ الْمَرِيضُ الْمُتَأَلِّمُ حَصَلَ عَلَى الْمُكَافَأَةِ السَّمَاوِيَّةِ، أَمَّا الْغَنِيُّ الْمُتْرَفُ فَقَدْ عُوقِبَ. وَيُعَلِّقُ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الْفَمُ قَائِلًا: “لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُؤْذِيَ إِنْسَانًا، مَا لَمْ يُؤْذِ نَفْسَهُ”. فَالَّذِي يُهْلِكُ الْإِنْسَانَ هُوَ أَسْلُوبُ حَيَاتِهِ، لاَ غِنَاهُ أَوْ فَقْرُهُ.
ثانيًا: خطيئة الغني كانت الأنانية والقسوة: الْغَنِيُّ لَمْ يُعَاقَبْ عَلَى مَالِهِ، بَلْ عَلَى أَنَانِيَّتِهِ وَقَسَاوَتِهِ: لَمْ يُطْعِمْ لَعَازَرَ. ولَمْ يَرَ فِي الْفَقِيرِ أَخًا، بَلْ عَامَلَهُ كَشَيْءٍ مُهْمَلٍ. وَتَقُولُ الأُمُّ تِرِيزَا: “أَرَى الرَّبَّ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ. عِنْدَمَا أَغْسِلُ جِرَاحَ إِنْسَانٍ، أَشْعُرُ بِأَنَّنِي أُدَاوِي الرَّبَّ نَفْسَهُ”.
ثالثًا: شهادة الكنيسة: يُذَكِّرُنَا الْمَجْمَعُ الْفَاتِيكَانِيُّ الثَّانِي فِي دُسْتُورِ فَرَحٌ وَرَجَاء (عَدَد 69) “أَعْطِ الطَّعَامَ لِمَنْ يَمُوتُ جُوعًا، فَإِنْ لَمْ تُطْعِمْهُ تَكُنْ قَدْ قَتَلْتَهُ”. إِنَّهُ نِدَاءٌ لِلْجَمِيعِ، سُلْطَاتٍ وَأَفْرَادًا، أَنْ يَتَحَمَّلُوا مَسْؤُولِيَّتَهُمْ نَحْوَ الْفُقَرَاءِ.
رابعًا: خطرا الثروة: الغِنَى فِي نَفْسِهِ لَيْسَ شَرًّا، لَكِنَّهُ يَحْمِلُ خَطَرَيْنِ:
تَحَجُّرُ الْقَلْبِ تُجَاهَ اللهِ: إِذْ يَكْتَفِي الْغَنِيُّ بِسَعَادَةٍ أَرْضِيَّةٍ وَيَتَجَاهَلُ الأَبَدِيَّةَ.
تَحَجُّرُ الْقَلْبِ تُجَاهَ الآخَرِ: إِذْ يَعْمَى عَنِ الْفَقِيرِ الْمُنْطَرِحِ أَمَامَ بَابِهِ. وَيُحَذِّرُ الْبَابَا فِرَنسِيس: “إِنْ لَمْ تُفْتَحْ أَبْوَابُ الْقَلْبِ لِلْفُقَرَاءِ، فَسَتَبْقَى هَذِهِ الأَبْوَابُ مُغْلَقَةً أَيْضًا أَمَامَ اللهِ”. الغنى وهمٌ أمام الموت. اسْتَعْمَلَ الْغَنِيُّ ثَرْوَتَهُ كَعِلَاجٍ زَائِفٍ لِلْمَوْتِ. كَانَ يَتَنَعَّمُ “كُلَّ يَوْمٍ تَنَعُّمًا فَاخِرًا” (لوقا 16: 19)، كَأَنَّهُ لَا مَوْتَ بَعْدَهُ. وَلَكِنَّ الْمَوْتَ وَضَعَهُ أَمَامَ الْحَقِيقَةِ: لَا أَمْوَالَ، وَلَا أَصْدِقَاءَ، وَلَا عَائِلَةَ تُنْقِذُهُ.
خامسًا: الجسر أو الهوّة: مَنْ بَنَى جُسُورَ صَدَاقَةٍ وَمَحَبَّةٍ، يَجِدْهَا فِي الأَبَدِيَّةِ خُشْبَةَ خَلَاصٍ:
“كُلَّمَا صَنَعْتُمْ ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِي هَؤُلَاءِ الصِّغَارِ، فَلِي قَدْ صَنَعْتُمُوهُ” (متى 25: 40). وَمَنْ بَنَى هُوَّةَ عُزْلَةٍ وَأَغْلَقَ الأَبْوَابَ، يَجِدْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ مَغْلَقَةً: “كُلَّمَا لَمْ تَصْنَعُوا ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الصِّغَارِ، فَلِي لَمْ تَصْنَعُوهُ… فَيَذْهَبُ هَؤُلَاءِ إِلَى الْعَذَابِ الأَبَدِيِّ، وَالأَبْرَارُ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ” (متى 25: 45–46).
خلاصة القول: الغِنَى لَيْسَ شَرًّا، بَلْ هِبَةٌ مِنَ اللهِ يُمْتَحَنُ فِيهَا الْإِنْسَانُ والْمِحَكُّ الْحَقِيقِيُّ: كَيْفَ نَسْتَعْمِلُ خَيْرَاتِنَا؟ أَنُقَسِّمُهَا بِالْمَحَبَّةِ أَمْ نُحْجِمُهَا بِالأَنَانِيَّةِ؟ والْمَصِيرُ الأَبَدِيُّ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِيَارَاتِنَا فِي الْحَاضِرِ؛ إمَّا جُسُورُ مَحَبَّةٍ تُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، أَوْ هُوَّةُ عُزْلَةٍ تُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ.
اَلْخُلاَصَةُ
يَضرِبُ يَسوعُ مَثَلَ الغَنِيِّ ولَعازَر في حُضورِ بَعضِ الرّافِضينَ لَه، إذْ: “وكانَ الفِرِّيسِيُّونَ، وهُم مُحِبُّونَ لِلمال، يَسمَعونَ هذا كُلَّه ويَهزَأُونَ بِه” (لوقا 16: 14). ومِن خِلالِ هذا المَثَل يُريدُ يسوعُ أنْ يُعَلِّمَنا الأَبعادَ الرّوحِيّةَ التّالِيَة:”
أَوَّلًا: اَلْبُعْدُ اَلرَّمْزِيُّ فِي اَلْمَثَلِ: مَثَلُ اَلْغَنِيِّ وَلَعَازَرَ لَيْسَ حِكَايَةً تَارِيخِيَّةً عَنْ أَشْخَاصٍ مُحَدَّدِينَ، بَلْ هُوَ قِصَّةٌ رَمْزِيَّةٌ تَكْشِفُ عَنْ فِئَتَيْنِ مِنَ اَلنَّاسِ وَظُرُوفِهِمَا اَلْمُتَنَاقِضَةِ:
- اَلْغَنِيُّ: رَمْزٌ لِرُجُالِ اَلدِّينِ اَلْيَهُودِ اَلَّذِينَ “كَانُوا يُحِبُّونَ اَلْمَالَ” (لُوقا 16: 14)، يَسْتَمِعُونَ إِلَى يَسُوعَ لَكِنْ يَرْفُضُونَ رِسَالَتَهُ، وَيَحْتَقِرُونَ عَامَّةَ اَلنَّاسِ (يُوحَنَّا 7: 49).
- لَعَازَرُ: رَمْزٌ لِعَامَّةِ اَلشَّعْبِ اَلْمُتَوَاضِعِ اَلَّذِينَ قَبِلُوا رِسَالَةَ يَسُوعَ رَغْمَ اِحْتِقَارِ اَلْقَادَةِ لَهُمْ.
اَلتَّغْيِيرُ اَلَّذِي يُظْهِرُهُ اَلْمَثَلُ جَذْرِيٌّ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ نَفْسَهُ مَقْبُولًا عِنْدَ اَللهِ بِسَبَبِ مَرْكَزِهِ اَلدِّينِيِّ أَوْ غِنَاهُ، إِذَا بِهِ مَرْفُوضٌ، بَيْنَمَا اَلَّذِينَ اُعْتُبِرُوا بِلَا قِيمَةٍ نَالُوا اَلْكَرَامَةَ اَلإِلَهِيَّةَ.
المَثَلُ لَيْسَ مُجَرَّدَ قِصَّةٍ عَنِ المَاضِي، بَلْ إِنْذَارٌ لِلْوَاقِعِ الحَاضِرِ. فَحَيَاتُنَا الأَبَدِيَّةُ تُبْنَى هُنَا وَالآنَ، مِنْ خِلاَلِ اخْتِيَارَاتِنَا اليَوْمِيَّةِ فِي اسْتِعْمَالِ المَالِ، وَفِي مَوَاقِفِنَا مِنَ الفُقَرَاءِ وَالمُهَمَّشِينَ. فَكُلُّ “لِعَازَرَ” عَلَى بَابِنَا هُوَ طَرِيقٌ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكُلُّ تَجَاهُلٍ لَهُ هُوَ
ثَانِيًا: اَلدِّينُونَةُ وَالْمَصِيرُ اَلأَبَدِيُّ: اَلْمَثَلُ يُظْهِرُ أَنَّ بَعْدَ اَلْمَوْتِ يَنْفَصِلُ اَلأَشْرَارُ عَنِ اَللهِ إِلَى اَلأَبَدِ، وَيَكُونُونَ فِي عَذَابٍ بِلَا رَجَاءٍ. لَيْسَ اَلأَمْرُ صِرَاعَ طَبَقَاتٍ بَيْنَ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، فَاَلْكِتَابُ اَلْمُقَدَّسُ يَشْهَدُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ نَفْسَهُ كَانَ غَنِيًّا جِدًّا، لَكِنَّهُ اِسْتَعْمَلَ غِنَاهُ فِي اَلْعَطَاءِ. اَلْمَثَلُ لَا يَقُولُ إِنَّ اَلْفَقْرَ وَحْدَهُ يُخَلِّصُ، وَلَا إِنَّ اَلْغِنَى وَحْدَهُ يُهْلِكُ، بَلْ أُسْلُوبُ اَلتَّعَامُلِ مَعَ اَلْغِنَى وَالْفَقْرِ هُوَ اَلَّذِي يُحَدِّدُ اَلْمَصِيرَ.
ثَالِثًا: اَلْغِنَى كَخَطَرٍ رُوحِيٍّ: يُحَذِّرُ يَسُوعُ مِنْ خَطَرِ اَلثَّرْوَةِ:
- أَنْ تَقُودَ إِلَى تَحَجُّرِ اَلْقَلْبِ تُجَاهَ اَللهِ، بِالاِكْتِفَاءِ بِمَلَذَّاتِ اَلدُّنْيَا وَنِسْيَانِ اَلأَبَدِيَّةِ.
- أَنْ تَقُودَ إِلَى تَحَجُّرِ اَلْقَلْبِ تُجَاهَ اَلْآخَرِ، فَتَمْنَعَ اَلْإِنْسَانَ مِنْ رُؤْيَةِ اَلْفَقِيرِ أَمَامَ بَابِهِ.
وَيُحَذِّرُ اَلْبَابَا فِرَنسِيس: “إِنْ لَمْ تُفْتَحْ أَبْوَابُ اَلْقَلْبِ عَلَى مِصْرَاعَيْهَا لِلْفُقَرَاءِ، فَسَتَبْقَى هَذِهِ اَلْأَبْوَابُ مُغْلَقَةً أَيْضًا أَمَامَ اَللهِ”.
رَابِعًا: اَلْغِنَى وَهْمٌ أَمَامَ اَلْمَوْتِ: اَلْغَنِيُّ فِي اَلْمَثَلِ جَعَلَ مِنْ ثَرْوَتِهِ عِلَاجًا زَائِفًا ضِدَّ اَلْمَوْتِ، لَكِنْ حِينَ جَاءَ اَلْمَوْتُ وَجَدَهُ فَقِيرًا بِلَا مَالٍ وَلَا أَصْدِقَاءَ وَلَا عَائِلَةٍ. هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ اَلثَّرْوَةَ قَدْ تَخْدَعُ اَلْإِنْسَانَ لَكِنَّهَا لَا تُخَلِّصُهُ.
خَامِسًا: اَلْفُقَرَاءُ طَرِيقُنَا إِلَى اَللهِ: اَلْفُقَرَاءُ لَيْسُوا عِبْئًا عَلَيْنَا، بَلْ هُمْ طَرِيقُنَا إِلَى قَلْبِ اَللهِ. تَقُولُ اَلْأُمُّ تِرِيزَا:
“سَوْفَ نُدْرِكُ فِي اَلسَّمَاءِ مَا قَدَّمَهُ لَنَا اَلْفُقَرَاءُ، إِنَّهُمْ طَرِيقُنَا إِلَى قَلْبِ اَلرَّبِّ”. وَيُؤَكِّدُ يَسُوعُ فِي اَلدِّينُونَةِ اَلأَخِيرَةِ:
- “كُلَّمَا صَنَعْتُمْ ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِي هَؤُلَاءِ اَلصِّغَارِ، فَلِي قَدْ صَنَعْتُمُوهُ” (مَتَّى 25: 40).
- “كُلَّمَا لَمْ تَصْنَعُوا ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلِي لَمْ تَصْنَعُوهُ” (مَتَّى 25: 45).
سَادِسًا: دَرْسُ اَلْإِنْسَانِيَّةِ: اَلْمَثَلُ لَيْسَ وَصْفًا تَفْصِيلِيًّا لِلسَّمَاءِ أَوْ لِجَهَنَّمَ، بَلْ هُوَ دَرْسٌ فِي اَلْمَسْؤُولِيَّةِ اَلْإِنْسَانِيَّةِ فِي هَذَا اَلْعَالَمِ. اَلْغَنِيُّ هُوَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَجْعَلُ هَمَّهُ فِي اَلدُّنْيَا، وَيَعْبُدُ اَلْمَالَ بَدَلَ اَللهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى اَلْفَقِيرِ اَلْمُطْرَحِ عَلَى بَابِ حَيَاتِهِ.
سابعًا طَرِيقُ الخَلاَصِ: يُظْهِرُ المَثَلُ أَنَّ طَرِيقَ الخَلاَصِ لا يَقُومُ عَلَى رُؤْيَةِ مُعْجِزَاتٍ بَاهِرَةٍ، بَلْ عَلَى الإِصْغَاءِ إِلَى كَلِمَةِ اللهِ فِي “مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ”، أَيْ فِي الكِتَابِ المُقَدَّسِ. فَحَتَّى قِيَامَةُ المَسِيحِ لَمْ تُقْنِعِ القُلُوبَ القَاسِيَةَ الَّتِي رَفَضَتِ الكَلِمَةَ. لِذَلِكَ، فَالإِيمَانُ الصَّادِقُ يَتَجَلَّى فِي سَمَاعِ الكَلِمَةِ وَالعَمَلِ بِهَا، وَبِشَكْلٍ خَاصٍّ فِي مُمارَسَةِ أَعْمَالِ الرَّحْمَةِ.
سَابِعًا: دَعْوَةٌ لِفَحْصِ حَيَاتِنَا. اَلسُّؤَالُ اَلَّذِي يَطْرَحُهُ اَلْمَثَلُ عَلَيْنَا اَلْيَوْمَ: مَا هُوَ مَوْقِفُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا؟ هَلْ نَكْنِزُهَا لِأَنْفُسِنَا أَمْ نَسْتَعْمِلُهَا لِخِدْمَةِ اَلْآخَرِينَ؟ هَلْ نَرَى حَاجَاتِ اَلْمُحْتَاجِينَ وَنَسْتَجِيبُ أَمْ نُغْلِقُ أَبْوَابَنَا؟ قَدْ يُرْسِلُ اَللهُ إِلَيْنَا فَقِيرًا لِيَكُونَ طَرِيقَ خَلَاصِنَا، لَكِنَّنَا قَدْ نَصْرِفُهُ خَالِيَ اَلْيَدَيْنِ مُكْتَفِينَ بِقَوْلٍ: “اَللهُ يُعْطِيكَ»”. وَقَدْ قَالَ غِبْطَةُ اَلْبَطْرِيَرْكِ سَاكُو: “اَلْيَوْمَ لَدَيْنَا اَلْكَثِيرُ مِنْ لَعَازَرَ وَمِنَ اَلْأَغْنِيَاءِ. اَلْأَغْنِيَاءُ هُمْ أَغْنِيَاءُ اَلْحُرُوبِ وَالْفَسَادِ، أَمَّا اَلْفُقَرَاءُ فَهُمْ اَلنَّاسُ اَلأَبْرِيَاءُ”.
اَلْخَاتِمَةُ: إِنَّ مَصِيرَنَا اَلأَبَدِيَّ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا نَخْتَارُهُ فِي اَلزَّمَنِ: إِمَّا أَنْ نَبْنِيَ جُسُورَ اَلرَّحْمَةِ فَنَجِدَهَا فِي اَلسَّمَاءِ طَرِيقَ خَلَاصٍ، أَوْ نَحْفِرَ هُوَّةَ اَلْعُزْلَةِ فَنَجِدَهَا هُنَاكَ هُوَّةً أَبَدِيَّةً. “طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يُرْحَمُونَ” (مَتَّى 5: 7). هَكَذَا يُعَلِّمُنَا مَثَلُ اَلْغَنِيِّ وَلَعَازَرَ أَنَّ اَلْخَلاَصَ لَيْس فِي اَلْمَالِ وَلَا فِي اَلْفَقْرِ، بَلْ فِي اَلْإِصْغَاءِ لِكَلِمَةِ اَللهِ وَتَجْسِيدِهَا فِي حَيَاةِ اَلْمَحَبَّةِ وَالرَّحْمَةِ. الكَنِيسَةُ مَدْعُوَّةٌ أَنْ تَكُونَ صَوْتًا لِمَنْ لا صَوْتَ لَهُمْ، وَأَنْ تُعَلِّمَ أَبْنَاءَهَا كَيْفَ يَجْعَلُونَ مِنْ إِمْكَانِيَّاتِهِمُ المَادِّيَّةِ وَالمَعْنَوِيَّةِ وَسِيلَةً لِلْخَيْرِ العَامِّ. وَهُنَا يَبْرُزُ البُعْدُ الإِفْخَارِسْتِيُّ: فَالخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ عَلَى المَذْبَحِ يَدْعُونَا إِلَى كَسْرِ خُبْزِنَا اليَوْمِيِّ مَعَ إِخْوَتِنَا الفُقَرَاءِ.
اَلدُّعَاءُ
يَا رَبَّ، أَعْطِنَا عُيُونًا تَرَى، وَآذَانًا تَسْمَعُ، وَأَعْطِنَا قُلُوبًا سَخِيَّةً كَيْ نَتَمَكَّنَ مِنْ مُقَاسَمَةِ اَلْفُقَرَاءِ اَلْمُحْتَاجِينَ اَلْكُنُوزَ اَلرُّوحِيَّةَ وَالْمَادِّيَّةَ اَلَّتِي مَنَحْتَنَا إِيَّاهَا، لَعَلَّهُمْ يَكُونُونَ لَنَا اَلطَّرِيقَ لِلدُّخُولِ إِلَى اَلْمَلَكُوتِ.
يَا رَبَّ، لَا تَجْعَلِ اَلْغِنَى يُغْلِقُ قُلُوبَنَا أَوْ يُحَجِّرُهَا وَيُحَوِّلُ أَنْظَارَنَا عَنْ إِخْوَتِنَا خَاصَّةً اَلْفُقَرَاءَ. بَلْ هَبْنَا اَلْقُوَّةَ وَالإِرَادَةَ لِكَيْ نَكُونَ مُسْتَعِدِّينَ أَنْ نَتَضَامَنَ مَعَ كُلِّ فَقِيرٍ نَلْتَقِي بِهِ، وَهَكَذَا نُرْفَعُ يَوْمًا “إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ” فِي اَلأَفْرَاحِ اَلسَّمَاوِيَّةِ اَلْخَالِدَةِ! آمِينَ.
اَلْقِصَّةُ: اَلرَّجُلُ اَلْغَنِيُّ وَلَعَازَرُ فِي اَلْعَالَمِ اَلْمُعَاصِرِ
فِي مَدِينَةِ “بْرَاكِل” اَلأَلْمَانِيَّةِ، وَعَلَى مَدْخَلِ أَحَدِ اَلْبُنُوكِ، وَضَعَ فَنَّانٌ كَبِيرٌ تَمَاثِيلَ بُرُونْزِيَّةً تُجَسِّدُ مَثَلَ اَلرَّجُلِ اَلْغَنِيِّ وَلَعَازَرَ، وَتُوَصِّفُ بَدَايَةَ عَمَلِ اَلْبُنُوكِ.
- تِمْثَالُ اَلرَّجُلِ اَلْغَنِيِّ يَحْمِلُ نُقُودًا فِي صُرَّةِ قُمَاشٍ، وَيَتَسَاقَطُ اَلنَّقْدُ مِنْهَا دُونَ أَنْ يَدْرِي، إِلَّا فِي اَلنِّهَايَةِ.
- خَلْفَهُ اِمْرَأَةٌ تَزْحَفُ لِتَجْمَعَ بَعْضَ مَا تَسَاقَطَ.
- وَفِي اَلْمُقَابِلِ، شَابٌّ عَاطِلٌ عَنِ اَلْعَمَلِ وَفَقِيرٌ، يُحَاوِلُ اَلْقَفْزَ مِنْ أَعْلَى اَلْبَلْكُونِ، وَيَصِيحُ صَارِخًا فِي وَجْهِ اَلْغَنِيِّ اَلَّذِي يُكَدِّسُ أَمْوَالَهُ: “أَعْطِنِي مِنْ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُخَزِّنَهُ فِي اَلْبَنْكِ”.
- وَإِلَى جَانِبِ اَلطَّرِيقِ، طِفْلٌ يُحَاوِلُ اَلْإِفْلَاتَ مِنْ يَدِ أُمِّهِ اَلْمُسْتَعْجِلَةِ لِيَحْصُلَ عَلَى بَعْضِ اَلْمَالِ.
يُصَوِّرُ هَذَا اَلْمَشْهَدُ اَلرَّجُلَ اَلْغَنِيَّ اَلَّذِي لَا وَقْتَ لَدَيْهِ إِلَّا لِعَدِّ أَمْوَالِهِ، وَالْفَقِيرَ اَللَّاهِثَ لِيَجْمَعَ صُدْفَةً بَعْضَ اَلنُّقُودِ اَلْمُتَسَاقِطَةِ مِنْ جُيُوبِهِ.