التراث العربي المسيحي القديم
الفصل السادس والعشرون
دراسات حول بعض اللاهوتيين العرب
نظيف بن يمن
طبيب ومترجم ولاهوتي مسيحي من القرن العاشر
( من مقال للاب يوسف نصرالل، مجلة المسرة)
نظيف بن يمن هو واحد من الذين ورد ذكرهم في معظم طبقات الاطباء. فقد ذكره ابن النديم وابن القفطي وابن أبي أصيبعة وابن العبريّ. ولم يغفله الكتاب المسيحيون القلائل في القرون الوسطى، من مثل المؤتمن بن العسال وأبي البركات الذين أوردوا اسماء رجال اللاهوت، ممّن سبقوهم أو عاصروهم أو كان لهم فيهم بعض الأثر.ولنا في ما أطلقه جامعو الطبقات من أسماء على أبن يمن مستند لابراز شخصيتّه ومعرفة بعض تفاصيل حياته. فابن النديم يسميه نظيفاً المتطبّب. وهكذا يذكره القفطي وابن ابي أصيبعة وابن العبريّ. ويدعوه هذان الأخيران نظيفاّ القسّ الرومي. أما أبو البركات فيدعوه القسّ أبا علي ابن يمن المتطبّب.
هذه الكنية ( أبو علي) حملت الأب شيخو على تثنية الشخص الواحد والتمييز بين نظيف بن يمن، القسّ والطبيب الملكي البغدادي، الذي عاش في القرن العاشر، وشرح مؤلفات أقليدس، ونقل الينا ابن العسّال في كتابه أصول الدين مقالته في الاتحاد، وأبي عليّ ابن يمن الطبيب الملكيّ من القرن الثاني العشر، الذي ذكره ابو البركات ووصفه بأنه مؤلف مقاةى في ماهية اعتقاد النصارى.
بيد أن الكاتبين القبطيين لا يلمحان الا الى لاهوتي واحد وضع المقالة ذاتها ولمن يضع غيرها. وانتسابه المليّ محدّد، فهو رومي كما يقول ابن ابي أصيبعة وابن العبري، وروميّ ملكيّ كما جاء عند ابن العسّال. واللفظتان تطلقان على الطائفة نفسها: الملكيّة أو الملكيين. وذلك أمر ظاهر من مؤلفاته. فاين القفطيّ يلقبّه بنظيف النفس وقد يكون كذلك. الاّ أننا نرى مردّ هذه الكتابة الى تنقيط خاطىء لكلمة قسّ فصلت فيه نقطتا القاف الواحدة عن الأخرى، فأصبحتا وكأنهما نون وفاء، لا قاف.
ويتفرّد ابن العسّال بوصفه بالبغدادي. فهل يعني ذلك أنه ولد في بغداد. أو أطلقت عليه تلك النسبة لأنه مارس مهنته في العاصمة العبّاسية؟ ذلك ما لا تمكننا معلوماتنا الحالية من ان نقول فيه القول الفصل. وفي الحالين ليس في الأمر مشكلة، ولا هو يضع انتسابه الى الكنيسة الملكية موضع التساؤل، بحجّة أن بغداد على الخصوص، والعراق، على العموم، كانا ولا يزالان موطن النساطرة واليعاقبة. فالطائفة الملكية كانت مزدهرة في العاصمة العبّاسيّة في القرن العاشر، وكان على رأسها جاثليق يخضع له عدد من الأساقفة…
عصر نظيبف يتوافق وعصر الأمير عضد الدولة الذي كان في خدمته. ومعروف أن ذلك الأمير البويهي أقام نهائياً في بغداد في حزيران 979، ومات فيها في 26 آذار 389. فيكون نظيف قد عاش في القرن العاشر ومارس نشاطه الطبي في الربع الأخير منه. ولعلّه توفّي في مطلع القرن التالي. ومهما يكن من أمر. فابن النديم المتوفي سنة 1006، قد عرفه اذ يقول في الفهرست: “حدّثني نظيف المتطبّب…”.
عُرف نظيف بن يمن كطبيب ومترجم ولاهوتي. وابن ابي اصيبعة هو الوحيد الذي أشار الى أنه كان يعدّ من أبرع أطباء بغداد. وكان قد بدأ عمله في شيراز قبل ان يلتحق بخدمة عضد الدولة، كما يستنتج من حاشية وردت في الصفحة 76 من مخطوطة باريس ذات الرقم 2457 (القرن العاشر)، وفيها ان مقالة ابي الحسن ثابت بن قرّة في تركيب النسّب قد نسخها احمد بن محمد بن عبد الجليل عن مخطوطة نظيف بن يمن الطبيّب النصراني في شيراز، في 29 جمادى الثاني، سنة 359 هـ ( أيار 970 م).
ورغم أن الأمير البويهيّ كان يتطيّر من معاينته فقد استخدمه في المستشفى الذي أنشأه في بغداد. وكان البيمارستان العضُدي الكبير على منعرج نهر دجلة، في الجهة الغربية من المدينة وقد فتح أبوابه سنة 982 قبيل وفات مؤسسّه. وكان فيه أنذاك اربعة وعشرون طبيبا، منهم الطبيعيّون والكحّالون والجراحون والمجبّرون. ويشير ابن القفطي الى أن جعالة جبرائيل بن عبيد الله الذي كان يعمل في البيمارستان نهارين وليلتين في الأسبوع كانت تبلغ300 درهم في الشهر. وكانت تُلقى فيه أحاديث، وتعرف بعض الكتب التي تقرأ في ذلك الصدد، من مثل الأقربادين لسابور بن سهل من جنديسابور.
ولم يكن عضد الدولة وحده يتطيّر من نظيف بن يمن ويخشى عيادته، بل يشاركه في ذلك جميع المرضى. ومما يُروى أن الامير البويهي أوفده يوما لعيادة واحد من قواده أصيب بعلّه. وما كاد الطبيب يخرج من غرفة المريض حنى استدعى هذا خادمه الذي يثق به وأرسله الى حاجب عضد الدولة لاستطلاع موقف الأمير منه. فاذا ما كان قد فقد الحظوة لديه فهو يلتمس من الأمير أن يأذن له بالنزوح عن بغداد. وعندما استفسر الحاجب عن سبب هذا التخوّف أجاب الرسول انه لا يعرف شيئاًَ سوى عيادة نظيف لسيّده فنقل الحاجب ذلك الى عضد الدولة فضحك كثيراً وأوفد رسولا الى المريض يطمئنه ويحمل اليه الهدايا.
لا نعرف أي كتاب في الطبّ من وضع نظيف. وقد ذكر ابن أبي اصيبعة، وهو المصدر الأساسي الذي نستقي منه معلوماتنا. ان ابن يمن كان عالماً باللغات يترجم من اليونانية الى العربية، ولا يزيد على ذلك القول شيئاً. أما ابن النديم فيورد بهذا الصدد ما يأتي:
“حدثني نظيف المتطبب أعزّه الله أنه رأى المقالة العاشرة من اقليدس رومي وهي تزيد على ما في ايدي الناس اربعين شكلاً، والذي بين الناس مائة وتسعة اشكال، وأنه عزم على اخراج ذلك الى العربيّ. وذكر يوحنا القس انه رأى الشكل الذي ادعاه ثابت في المقالة الاولى، وزعم انه له في اليوناني، وذكر نظيف أنه أراه اياه”
وتحوي مخطوطة باريس ذات الرقم 2457 قسماً من ترجمة ابن يمن هذه (الصحيفة 80ظ – 82 و161و-161ظ). وفيه برهانان على القضية الأولى وعلى القضية السادسة، أي البرهان الأول على القضية الأولى، والبرهان الأول على القضية السادسة.
وقد ترجم ابن يمن كذلك قسماً (الألف الكبرى) من كتاب أرسطو ما وراء الطبيعة. ثم ان أحمد بن محمّد بن عبد الجليل قد وجّه اليه رسالة تدور حول انشاء مثلث دقيق الزوايا بواسطة خطيّن مستقيمين غير متساويين، وهذه الرسالة موجودة في المخطوطة الباريسية نفسها ذات الرقم 2457 (صفحة 136ظ – 137ظ).
أما على صعيد اللاهوت فلابن يمن مقالتان. الأولى منهما هي رسالة في التوحيد والتثليت. وقد ذكر سباط مخطوطة لها في مجموعة الأب خضري في حلب. ومن دواعي الأسف ان تلك المجموعة قد بيعت كورق للرزم، وهكذا ضاع كل أمل في معرفة ما كان لفكر نظيف، في هذا المجال، من اتساع، وقيمة وشكل.
ويورد المؤتمن أبو اسحق بن العسّال (القرن الثالث عشر) في مجموع أصول الدين خلاصة لمقالة أخرى لنظيف، أدرجها في القسم الثامن من ذلك الكتاب الذي فصّل فيه عقائد الفرق المسيحية الثلاث، اليعقوبية والملكية والنسطووريه، ويتفرّع هذا الجزء الى خمسة أقسام، أثبت ابن العسّال في الثالث منها مقتطفات غير وجيزة من مقالة بن يمن.
ولقد مهد لهذه المقتطفات في تفصيل القسم الثامن بقوله:”خلاصة مقالة لنظيف بن يمن الملكي (تبرهن على أن) علماء النصارى غير مختلفين في معنى الاتحاد”.
ويختلف عنوان القسم الثالث بعض الاختلاف عما سبق، فقد جاء فيه:
“القسم الثالث. وللقسّ الفاضل نظيف بن يمن المتطبّب البغدادي الملكي، رضي الله عنه. من جملة مقالة في الاتحاد ذكر فيه أن علماء النصارى غير مختلفين في معنى الاتحاد وان اختلفت عباراتهم”.
وفي مكان ثالث من ذلك الكتاب يتكلّم ابن العسّال على “نظيف بن يمن صاحب مقالة يبرهن فيها على ان الفرق الثلاث تتلاقى في الحقيقة في معتقداتها”، ولقد ذكر تلك المقالة عينها أبو البركات في كتاب مصباح الظلمة، تحت عنوان: في ماهية اعتقاد النصارى.
اذا كنّا قد توقّفنا عند عنوان مقالة ابن يمن هذه، فذلك لانه يدلّ في الوقت نفسه على مضمونها، وهو توافق الفرق الثلاث الكبرى بشأن اتحاد اللاهوت والناسوت في المسيح. وليس فيه ذكر الثالوث. لذلك لا يمكن القول بأن مقالتي ابن يمن هما من مؤلّف واحد، فننكر نسبة الرسالة في التوحيد والتثليت اليه. ان فهرس الأب سباط على ما فيه من شوائب، قد ذكر مقالتين مختلفتين اسماً وعنواناً ورقما.
وصلت الينا مقالة ابن يمن الثانية في مخطوطات عدّة: مخطوطة باريس العربية رقم173( صفحة 92و-99و. من القرن الرابع عشر). ومخطوطة سباط رقم 1001-25 ( من القرن الحادي عشر) ومخطوطة، أخرى لم ترقم في المجموعة ذاتها العائدة الى الأب خضري في حلب.
لا نعلم شيئاً عن الظروف التي وضع فيها ابن يمن مقالته. لقد دُعي، في اجتماع عقد عند عضد الدولة، الى بسط عقيدة الفرق المسيحية الثلاث الكبرى، في العهد العبّاسي، أي الملكية واليعقوبية والنسطورية، بشأن اتحاد اللاهوت والناسوت في المسيح.
ان الدأب المسيحي العربي، من القرن التاسع حتى الثالث عشر، ينهج نهجاً خاصاً يمكن تسميته “المناظرة” التي تتبدّى بوجهين: المقالة وهي عرض فلسفي، والمجلس الذي يتميّز بالجدل والمناقشة والاطالة.
ففي المقالة لا يتناول الكاتب سوى موضوع واحد، أما المجلس فمجاله أرحب. يقول أ. أبيل:
“ان أدب المجلس معروف لدى جميع الذين يعنون بدراسة تاريخ الجدل الاسلامي، ولدى من يعنون، على العموم، بتاريخ الفكر الاسلامي. انها الجلسة أمام أمير أو كبير، كالقاضي أو الوزير. يجتمع فيها علماء متباينون في الرأي، أو أطباء أو رجال فنّ وشعر، فيبسطون ما لكل منهم من عقيدة أو رأي، ويفعلون ذلك احيانا للمقارنة… وجملة هذه الجلسات المعقودة امام مستمعين متغايرين في الاستعداد، توصف بالمجادلة. ومن الجدير بالذكر ان المجلس ليس محضر جلسات – وان اتخذ احيانا هذا الطابع – بل هو من صنع المخيّلة، يهدف أحياناً الى الدعاية”.
وهذه الخاصة الأخيرة تتيح لنا أن نميّز بين نوعين من المجالس: ففي الأول يكون الاخراج خياليّاً والأشخاص، من أمير أو محاورين أو ابطال، وهميين. تلك هي الحال بالنسبة الى مجادلة أبي قرّة مع أبي رائط وعبد يشوع، وفي الثاني تكون الخلفية تاريخية، والأشخاص والابطال حقيقيين. ومثال ذلك مجادلة الراهب السمعاني.
بيد أن المجلس الذي جرى أمام عضد الدولة لا يدخل في نطاق المجادلة سواء أكانت وهمية أم تاريخية. فليس هناك من معارض. ونظيف يتحدّث وحده دون منازع. وهو يرمي الى اقامة البرهان على أن الفرق الخلقيدونية (الرومية) والمونوفيزية (اليعقوبية) والنسطورية لها، بالنسبة الى أتحاد الطبيعتين في المسيح، معتقد واحد. والغرض من ذلك البرهان هو “الخدمة والرغبة في التقارب”.
ولقد لخّص ابن العسّال فكر ابن يمن تلخيصاً جيّداً عندما قال عنه ما يأتي:
“قال (نظيف بن يمن) اختلاف هذه الفرق الثلاث في المسيح هو أن اليعاقبة يقولون ان المسيح قنوم واحد وطبيعة واحدة. والروم يقولون ان المسيح قنوم واحد وطبيعتان. والنسطوريون يقولون ان المسيح قنومان وطبيعتان.
والقنوم عند الروم والسريان هو بمنزلة الشخص. وحدّ الشخص هو ما يقوم من صفات لا توجد جملتها في وقت من الأوقات لغيره، مثل زيد الشاب الطويل الفلاني. الا أنّ عُلمَا هذه الفرق لا تختلف في هذا المعنى وان اختلفت في العبارة طلبا للغلبة وحسب الرياسة. وأنا فلست أتعرّض لترجيح واحد من هذه الأقوال على الآخر اذ كان ذلك خارجاً عن غرضي اذ هو انما شرح ما تعتقده هذه الفرق الثلاث في المسيح.
فأما كيف اتحد الاله بانسان وكيف صار الانسان يظهر الأفعال الالهية فهو أمر عويص شاقّ تفهّمه وتكملته.
(وتتمة غرضه في هذا الفصل أورده بعد كلام كثير في الاتحاد) قال :
ان الروم اذا قالوا قنوماً واحداً وطبيعتين أرادوا بالقنوم الأمر المشار اليه بالشخص الواحد بالعدد. فمن حيث هو شخص واحد بالعدد قالوا قنوماً واحداً ثم نظروا في أمر هذا الشخص فوجدوه مركبًا من طبيعتين.
لا يخالف أحد من النصارى في أن الوصف لهذا الشخص بالالهيّة صادق والوصف له أيضاً في تلك الحال بالانسانية صادق. فقد وجد لهذا القّوم شيئان احدهما الألهية والآخر الانسانية وهذا معنى قولهم في القنوم انه ذو طبيعتين.
وأما صدق اليعاقبة في قولهم بقنوم واجد وجوهر واحد فعلى ما أذكره، وهو ان الواحد بالشخص الذي هو المسيح قنوم واحد وان هذا الشخص اذا نُظر فيه هل هو جوهر أم عرض لم يسع القايل بحق يقول انه عرّض. فلا محالة انه جوهر من قبل انه ليس بعرض لأن هذا قول يصدق في العالم بأسره وان تكثّرت جواهره، اذ يصدق ان يقال ان العالم جوهر واحد، بمعنى انه ليس بعرض. فعلى جهة ان المسيح ليس بعرض يصدق انه جوهر واحد وطبيعة واحدة، وليس في هذا خلاف، وانما الخلاف في أن هذا الشخص يوجد فيه طبع واحد فقط. وأكثرهم يقولون يوجد فيه أكثر من معنى واحد.
وكذلك قد يوجد من النسطوريّ الجيّد المعرفة المحقق الايمان في وصف سيدنا المسيح بأنه قنومان وطبيعتان، من قبل انه قد اتفق فيه طبيعتان. واذا أخذت تلك الطبيعة ونظر فيها وأفردت وتحقّق معناها من حيث هي تلك الحال تشخّصت فيلزمها القنومية. واذا نُظر في كل طبيعة هذا النظر لزم وجوده قنوم لا محالة فعلى هذه الجهة يصدق القول بأن المسيح قنومان وطبيعتان الا أن الناظر في هذا الأمر على هذا السبيل هو ناظر في أمور مفردة. ويصحّ ما قلناه من ذلك بسبب الاتّصال والانفراد في حال الاحجاد. والمسيح هو مسيح بالاتحاد لا بالانفراد.
فعلى ما شرحنا صدق الفرق الثلث (الثلاث) وتتّفق في المعنى وتختلف في الاعتبار “كما ذكرنا”.
وهكذا يرى نظيف أن الهرطقات في الكنيسة انما قامت على الصلف وحبّ الرئاسة. وبدلاً من ان يعمد الى التنويه بطائفته والتبجّج بأنها وحدها قويمة المعتقد، أو ينكر ما يعرفه من اختلافات قائمة بين المسيحين طلباً لمسالمة وهمية، فقد لجأ الى الفلسفة للدلالة على أن هذه الاختلافات لا تتجاوز التعبير. أما العقيدة فهي نفسها لدى الجميع.
فلا غرو من ثمّ أن يُعد هذا القسّ البغدادي بحق رائد التقارب المسيحي المسكوني الصحيح.