قراءة روحية برفقة البابا فرنسيس: إعادة اكتشاف قلب تلميذ المسيح
الأب عماد الطوال – القدس
اللقاء بالمسيح
عندما يُطرح عليك هذا السؤال: من أنت؟ من البديهي أن تكون الاجابة شاملة لوصف مهنتك وحالتك الاجتماعية وخبرتك الإيمانية وميولك الإنسانية والاجتماعية. فهذا سياق جوابي عام متوقع ومتعارف عليه على عكس جواب قداسة البابا فرنسيس الذي خرج من هذا الإطار وكان جوابه البسيط خلال المقابلة الصحفية، 2013 “إنني إنسانٌ خاطىء”. إن عُدنا إلى جوهر هذا الجواب البسيط والعميق نرى شغف قداستة بلوحة للفنان”Caravaggio” تمثّل “دعوة متى الرسول” الموجودة في كنيسة القديس لويس من فرنسا في إحدى كنائس روما التي يرتادها باستمرار ويتأمل باللقاء المصيري والتغيير الجوهري في حياة جابي الضرائب. يضيف قداسته أنه راودني هذا التأمل خلال تنصيبي إلى السدة البطرسية حيث قُلت “لماذا أنا، إنني إنسانٌ خاطىء، ولكن عانقتني رحمة ربنا”.
فمثال متى العشار يضع امامنا صورة حيّه للانتقال والتغيير حيث انتقل هذا الإنسان الجابي والمخادع المكروه من جماعته ومجتمعه وبيئته واخترق قلب المسيح. لم يغلق المسيح قلبه امام المقبلين اليه والعائدين اليه والتائبين اليه، وهذا الانفتاح قلب حياة متى الرسول رأساً على عقب حيث كانت نظرة الجابي الاولى والمهمة إلى الأموال وإلى المائدة أي إلى الأرض وممتلكاتها، ولكن هذا اللقاء والانفتاح القلبي من الرب يسوع جعله ينظر إلى قلب الناس وإلى السماء والأفق. فكان التحول من ظلمة العالم إلى إشراق شمس الإيمان. عاش متّى الرسول صراعاً داخلياً وتساؤلاً جوهرياً: لا أريد أن أنتقل من هذه الحياة، لا اريد ان اتخلى عما أملك ، لكن يسوع اعطاه قلباً قوياً كي يتغير.. والوقفة الذاتية هنا ،كيف يمكن أن أدعو خاطئاً للسير معي؟ كيف لي أن أتغير؟
“حقائبنا المالية”
رسمت لنا اللوحة الفنية اللقاء العميق لمتى العشار مع السيد المسيح. نرى بعمق تساؤلات ذاتيه وحوارات داخلية. هذه الصوره تجسد واقع العديد من الناس وتظهر مكنونانتهم الداخليه. فكما نرى فيها رحمة الله ومحبته تخترق حياة متى الانجيلي وتخرجه من ظلمته المعتمة. هكذا هو الواقع، فالله معنا ليخرجنا من الظلمة إلى النور ما علينا الا بحوار ذاتي يفتح قلبنا نحو المحبه الالهية. فماذا كان تفكير متى الرسول في هذا اللقاء وما هي مشاعره: من جهة، الدهشة والفضول والاستغراب للطريق الجديد المعروض عليه، ومن جهة أُخرى، الخجل والخزي والخوف الذي يتمثل في معاصيه وخطاياه ورفضه القاطع لتغيير نمط حياته. فماذا سيكون: متى الرسول أم جابي الضرائب؟يشرح قداسته هذا الموقف: أن إصبع المسيح قد لمس قلب متى، ونظرات المسيح قد حدقت بعيون متى، فتحول وتغير وصار إنساناً جديداً رسولاً للمسيح. لقد أصابني نفس الشعور، لماذا تقول لي تعال فاتبعني؟ “أنا إنسان خاطيء” ولكن رحمة الله تعانقنا. مع متّى نرى صورة قداسة البابا المتواضع في رسالته الروحية وعمله التبشيري بأنه رسول الرحمة الإلهية حيث وضح ذلك في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل” مركزاً على التجدد اليومي بلقاء المسيح “أدعو كل مسيحي، في أي مكان ووضع كان، إلى أن يُجدد اليوم بالذات لقاءهُ الشخصي مع يسوع المسيح، أو، على الأقل، أن يقصد بأن يدعَ المسيح يلقاه، بأن يبحث عنه كل يوم بإستمرار” (3). ركز السيد المسيح في إرشاده الرسولى على خبرة التجدد اليوم للكنيسة وللمؤمنين لتعميق العلاقة الشخصية مع المسيح وتقليص الهوة الإيمانية وذلك لمواجهة المعضلات والتحديات التي تواجه عالم اليوم. وكما دعى متى الجابي للضرائب أن يتخلى عن حقيبته المالية، وهنا يدعونا أن نتخلى عن مغريات العالم بأن نترك كل شيء ونتبعه، ان لا ننظر الى الارضيات بل إلى السماويات واللقاء والدعوة لبناء إنسانية الحياة مع المسيح محررنا. “من يُخاطر لا يخذله الله، ومن يخطو خطوة صغيرة نحو يسوع، يكتشف أنه كان هو ينتظر مجيئه بذراعين مفتوحتين”. (3). وهنا اركز على ان اخسارة الماديه والتخلي عن مغريات العالم هي مكسب في معرفة المسيح وقبوله مخلصا وملكا في حياتنا.
“فرحُ الإنجيل”
نلمس غياب هذا الفرح الحقيقي في عالم اليوم المضطرب والمضطرم، عالم الفردية والانفرادية، عالم الذاتية والتسلطية. فرح الانجيل فرح البشرى الساره هو فرح لا ينطق به هو فرح القوه… افرحوا لان فرح الرب هو قوتكم. فرح الانجيل هو قوتنا. من هذا المنطلق وبهذه النظرة أراد قداسته أن يختار عنواناً لإرشاده الرسولي “فرحُ الإنجيل” ليذّكر العالم والمؤمنين بالفرح الحقيقي. فرح المسيح والإنجذاب والاقتراب من النبع الحقيقي. ما هو تعريف الفرح؟ يقول القديس توما الاكويني بأن الفرح الطبيعي هو ثمرة الحب. وأن الحب، اجتماعياً هو نظرة عاطفية للقرب من الآخر والشعور المتبادل بين المحب والحبيب. ولكن روحياً الفرح هو ثمر الفضيلة الإلهية المحبة، أي معانقة حب الله لنا والمشاركة في هذه المحبة الإلهية النابعة من حبٍ إلهي وشركة بالعظمة الإلهية وتبادل عجيب بين عظمة الله وضعف الإنسانية. ما أعظم هذا التبادل العجيب. الإنتقال من نظرة العالم للحياة والنظرة الإلهية، إلى الخروج من الذات والتفكير بالآخر والانسانية. فالآخر هو طريقي إلى الله وإلى ذاتي. “إن معضلة عالم اليوم، تنبع من البحث السقيم عن ملاذٍ سطحي، عندما تنغلق الحياة الداخلية على مصالحها الذاتية، يُفقد مكانُ الآخرين، فلا الفقراء يدخلون، ولا يُسمع صوت الله، ولا يُستمتع بفرح المحبة، ولا ينبضُ حماسٌ بفعلِ الخير”. (2). فرح الانجيل هو جسرنا نحو الابديه،هو جسرنا نحو الحريه والتخلص من قيود الشيطان والعبودية.
صلاة قداسة البابا فرنسيس
يدعونا قداسته إلى مواجهة هذه المعضلة بالعودة إلى فرح الإنجيل حتى يمتلئ قلب وحياة من يلتقون بيسوع ويتجدد اللقاء اليومي معه من خلال هذه الصلاة: “يا رب، لقد خُدعت، وبألفِ طريقةٍ هربت من حُبكَ، إلا أني مرةً أُخرى أُجدد عهدي معك. إني أحتاج إليك. إفدني مجدداً، يا رب، واقبلني ثانية بين ذراعيك الفاديتين”. نجد من خلال هذه الصلاة البسيطة إشاراتان (تواضع وثقة). ويضيف قداسته “كم تنفعنا العودة إليه عندما نضل! لا يتعب الله أبداً بأن يغفر، نحن الذين نتعب من طلب رحمته”. (3) فقط بفضل ذلك اللقاء -أو اللقاء الجديد- مع حب الله، فيدا الرب مفتوحتين تدعونا لنقبل له.. تعالوا الي يا جميع المتعبين، ونحن جميعا متعبين بالخطية، تعالوا الي بكل قلوبكم . فالله كامل لا يريد سوى الكمال تعالوا جميعكم، تعالوا بكل قلوبكم، دعوة صادقة على الانفتاح والقبول الكلي غير المجزوء. دعوة الى اللقاء الذي يتحول إلى صداقة مُفرحة، نتحرر فيه من ضميرنا المنعزل والمرجعية الذاتية. ونتمكن من أن نكون إنسانيين، كلياً، نكون أكثر أنسانية، عندما نسمح لله بأن يقودنا إلى ما أبعد من ذواتنا، كي نبلغَ كياننا الأكثر حقيقة. (8).
“التلاميذ المرسلون”
يشدد قداسته على الرسالة النبوية والتبشيرية لجميع المعمدين. كلٌ في مكانه. وقد صنف المعمدين إلى صنفين: “المرسلون” الذي يخرجون ويشاركون الرسالة والخبرة علناً، “والتلاميذ” وهم من يحملون للجميع شهادة حية لحب الله ورحمته. إنَّ هذا النداء موجَّه إلى جميع الذين إعتمدوا بالمسيح وآمنوا به، بحيث لا يعدُل أحد عن التزامه في التبشير بالإنجيل، لأنه إذا كان حقاً إختبر حب الله المخلص، فلا يعوزه كثير من الوقت لينطلق ويبشر به، ولا يمكنه أن ينتظر مزيداً من الدروس والتعاليم الطويلة. (120). ويشير قداسته إلى حقيقة علاقتنا بالله، التبادل العجيب بين عظمته وضعفه بقوله: “في كل الأحوال، إننا جميعاً مدعوون إلى أن نقدم للآخرين شهادة جلية عن حب الرب الخلاصي، الذي يتعدى نواقصنا ويعطينا قُربةً وقوةً ومعنىً لحياتنا. قلبُكَ يعرف أن الحياة ليست هي نفسها بدون الرب، حينئذ، ما تكتشفهُ، ما يساعدك على الحياة، ما يبثُك رجاءً، هذا هو ما عليك أن توصله إلى الآخرين”. (121). وانوه هنا بأن اعظم مايشهده ويشاهده العالم هو ايماننا ورجاؤنا بالرب ومحبتنا المطلقه هذه الركائز الثلاثه التي بها ننطلق بفرح بها كمتى عندما اكتشف ذاته بنور الرب وانفتح قلبه على خلاص الرب.. أمن فخلص هو واهل بيته.
Edward Sri (2014). Rediscovering the Heart of the Disciple. Pope Francis and the Joy of the Gospel. USA. PP. 9- 22