الكنيسة تقدّم لنا الكتاب: تجلّي المسيح في حياتنا (متّى 17 : 1 -9)
(بقلم الأب بيتر مدروس)
يشكو خلق كثير: “الكنيسة الكاثوليكيّة وشقيقتها الأرثوذكسيّة تقومان بطقوس وتهملان الكتاب المقدّس!” وفاتهم أنّ القراءات من الكتب المقدّسة في قدّاس كل يوم وفي قداديس الآحاد كثيرة ومتعدّدة وغنيّة ومنظّمة وشاملة لا تعتمد على هوى الكهنة، كما أنّ تأويل كلمة الله في الكنيسة “لا يأتي بتفسير فرد من الناس” كما أوصى أمير الرسول بطرس بابا روما الأوّل (2 بطرس 1 : 20). وما “قصّر” قداسة البابا فرنسيس فخصّص ما لا يقلّ عن ثماني عشرة فقرة من إحدى رسائله للعظة كي تكون مفيدة وجذّابة…
وجُلّ ما فات المعترض العزيز أنّ الكنيسة الكاثوليكية الأرثوذكسية (خصوصا قبل الانقسام) هي هي التي حافظت على المخطوطات وأنّها بصفتها “عمود الحقّ وركنه” هي التي حدّدت بإلهام من روح القدس لائحة الكتب المقدّسة خصوصا بعد أن تطاول على بعضها في مجمع “يبنيه” بقرب يافا في فلسطين معشر الحاخامات منذ سنة 90 م.
وفي الذكرى السنوية الأولى لرحيل قدس الأب يعقوب حنا سعادة من كهنة البطريركية اللاتينية المقدسية، يخطر على بال المرء سؤالا وجّهه الأب الفاضل المرحوم إلى أحد الدعاة الأمريكيين الذي كان يكلمه عن الكتب المقدسة: “من قال لك أن ما بين يديك هو الكتاب المقدس وأنّ هذه الكتب – لا سواها – هي كلمة الله الملهمة الموحى به؟” وسكت الداعية لأنّ الجواب الوحيد الممكن كان: “الكنيسة هي التي قررت ذلك كخليفة للرسل ونائبة للمسيح”. أمّا المنسينيور وليم مير فقد سأل دعاة جماعة مستحدثة حاملين الكتب المقدسة: “من جمع معاً كل هذه الأسفار؟” وهنا أيضا الجواب الوحيد الذي لا ثاني له: “الكنيسة!”
في غنى كلمة الله التي تقدّمها الكنيسة: أبرام المبتلى قبل أن يرى الخير (تكوين 12 : 1 -4)
يلحظ المرء نوعًا من “القساوة” الإلهيّة مع إصرارِ مذهل على “جرح” شعور الرجُل أبرام: نعم، ما اكتفى الرب بأن يأمر خليله :”إنطلق من أرضك ” بل زاد تعالى وكأنّه يريد التوكيد والتّشديد – وإن كان الأمر شديد الوطأة على العبد: “إنطلق من عشيرتك ومن بيت أبيك”! ثلاث مرّات “يقلع” الرب خليله من بيئته وبيته وأهله ويلقي به في مجاهل الغربة: “إلى الأرض الّتي أريك”: أرض يقصد تعالى ألاّ يحدّدها، فيزيد الأمر غموضًا وصعوبة و”قساوة”! ولكنّ الله محبّة وصرامته مؤقّتة مصطنعة هدفها الاختبار والابتلاء. وسنشهد القساوة والصرامة والتشديد والتوكيد نفسها – بل أعمق – في طلب لله يكاد لا “يدخل عقلاً”: “وكان بعد هذه الأحداث أنّ الله امتحن إبراهيم وقال له : يا إبراهيم. قال: ها أنا. قال الله: خذ ابنك، وحيدك، الذي تحبّه، اسحق (أربع عبارات وصفيّة تحبّبيّة قبل أن تأتي الرغبة الإلهيّة “الفظيعة”!) وامضِ إلى أرض موريّة وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أريك!”
الأسلوب هو نفسه: رفع شأن المحبوب – الأرض والولد الحرّ – ثم “سلخ” إبراهيم عنه! المحبوب يجب هجره والمجهول يجب قصده: “الأرض التي أريك ، الجبل الذي أريك!” وكأن الله لم يكن بهما عليمًا. وكما “صدم” الله إبراهيم بطلبيه، يفاجئ الله خليله بإنعاماته الفريدة التي تفوق كلّ توقّع: الأرض “الغريبة” أفضل من وطن آبائه بين النهرين، أمّا الغلام فلن يسمح الله بأن “يمدّ إبراهيم إليه يده” وسيصبح بابنه يعقوب من أجداد المسيح المنتظر!
ويأتي العلم الحديث – خصوصا بتحليل الحامض النووي – ليثبت أنّ عددا كبيرا من المدّعين في الأرض المقدسة أنهم نسل إبراهيم ليسوا من ذرّيته بل من “الخازار” المنحدرين من نواحي القوقاز، كانوا وثنيين اعتنقوا اليهودية في القرن الثامن الميلادي. وأكثر القوم عقلانيّة – بين يهود ومسيحيين وسواهم – هو السيد المسيح ورسوله بولس الذي قال أن “المسيح هو نسل إبراهيم” بحيث أن المؤمنين بالمسيح هم نسل إبراهيم بالروح – وهو أثبت من الجسد إذ أن “اللحم لا ينفع شيئاً” كما قال السيد نفسه له المجد.
من غنى القراءة الثانية : الرسالة الثانية إلى تيموثاوس وإلينا جميعا ( 2 تيم 1 : 8 -10)
يكتب رسول الأمم إلى ابنه الروحاني: “شاركني المشقّات” ، والرسول ذاته كتب أنه بتألمه ومعاناته “يُكمل في جسده (أي جسد بولس) ما نقص من آلام المسيح” التي هي كاملة بحدّ ذاتها ولكن ناقصة فينا وبسببنا. ويتابع الإناء المختار أنّ الله “دعانا دعوة مقدّسة لا بالنظر إلى أعمالنا” أي أنه دعانا نحن الخطأة لا إلى البقاء في الخطيئة بل إلى التوبة وأعمال المحبة والإيمان والصلاح، “وفقاً لسابق تدبيره” أي أنه تعالى يريد لنا الخلاص ويعطينا النعمة، ولكن طبعًا إذا أردنا نحن وقبلنا، كما كتب العبقري القديس أوغسطينوس: “الله الذي خلقنا من غيرنا لا يقدر أن يخلّصنا من غيرنا”. وعلمه تعالى السابق للأمور والأعمال لا يلغي حرّيّة البشر وإلاّ فلا يحقّ لله أن يحاسبنا ولا أن يعاقبنا – ولا أن يكافئنا!
“المسيح جعل الحياة والخلود مشرقَين بالبشارة”
النبأ السّارّ عن مجي المسيح المنتظر وإتمامه للفداء وقطعه للعهد الجديد مع جميع الناس يجمّل حياتنا وينقلنا من النقمة إلى النعمة ومن الديجور إلى النور ومن الهوان إلى الكرامة ويبهجها ويغيّر حياتنا “من مجد إلى مجد” ومن فرح إلى فرح ومن بهاء إلى سناء، ونحن واثقون من الحرّيّة الحقيقيّة والمساواة الكاملة والأخوّة الشّاملة والكرامة للمرأة خصوصا في شريعة الزّوجة الواحدة: كلّ هذا السّرور غير وارد مع الأسف عند معشر العبرانيّين غير المؤمنين بالمسيح: إنّهم ينتظرون ويئنّون وقضى الملايين منهم نحبه وقد عصرت الحسرة أفئدتهم لأنهم لم “يعاينوا مشيح الرب” بخلاف سمعان الشّيخ وحنّة النّبيّة!
المسيح المجيد يتجلّى ويغيّر حياتنا إلى سعد ومجد!
يصعد جبلا عاليًا وهو نفسه القمّة. ويختار بطرس ويعقوب ويوحنّا الرسول الحبيب. هذا هو الثلاثيّ الدنيوي الرسوليّ. ويتجلّى قدّامهم ومعه “موسى وإيليّا”: هذا هو الثلاثي السماويّ. “يسطع وجهه له المجد كالشّمس”. وفي العبارة للوهلة الأولى قوّة في حين أنّها لاهوتيّاً ضعيفة بما أنّ الشّمس من نور المسيح الذي “به كان كلّ شيء”. فضياء الشّمس شعاع من نوره البهيّ ، هو شمس البِرّ أي الصلاح والقداسة.
صحيح أنّ موسى يمثّل الشّريعة وإيليّا الأنبياء – وكلّها في المسيح تمّ. ولكن القاسم المشترك بين الرب يسوع وبينهما هو أنّهم جميعاً صاموا أربعين يوما وأربعين ليلة، سواء حول “جبل الله” حوريب أو سيناء أو “الجبل العالي” أي طابور (أو حرمون أي “جبل الشّيخ”). فالصيام طريق للمجد أيضا!
خاتمة
ليتجلّينّ المسيح في حياتنا وعلى وجوهنا. ولنتمّمنّ حُلم أمير الرسل بطرس أي أن يكون كلّ من منازلنا – خصوصًا في سنة الأسرة – “خيمة” للرب أو مظلّة للكلمة الذي “صار بشرًا وضرب خيمته بيننا” (يوحنّا 1 : 14).