الأحد الرابع من زمن المجيء-سنوات (ب)

من إنجيل ربنا يسوع المسيح للقديس لوقا (1: 26-38)

في الأحدِ الأخيرِ مِنْ زَمَنِ المجيء؛ تَضَعُ الكنيسةُ بَينَ أَيدينا إِنجيلَ بِشارَةِ الملاكِ للعذراءِ مريم، والّذي يتحدَّثُ فيهِ الإنجيليّ لوقا عنِ الحدث بوضوحٍ في الزَّمانِ والمكان: “وفي الشَّهرِ السَّادِس، أَرسَلَ اللهُ الـمَلاكَ جِبرائيلَ إِلى مَدينَةٍ في الجَليلِ ٱسْمُها النَّاصِرَة، إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ ٱسمُه يوسُف، وَٱسمُ العَذْراءِ مَريَم”. (لو1: 27). تِلكَ البشارةُ المذكورَةُ في بِدايَةِ إِنجيلِ لوقا، هِيَ حَدثٌ مُتواضعٌ ومخفيّ، لم يراها أحد، ولم يعرفها سوى مريم. وَلكنْ في الوقتِ نفسِهِ كانت تِلكَ البِشارةُ حاسمةً في تاريخِ البَشريّة. فعِندما قالت مريمُ “نَعَم” للمَلاكِ حُبِلَ بيسوع. وَبِذلكَ قَد بدأَ عصرٌ جديدٌ مِنَ التّاريخ. الّذي أَصبحَ عهداً جديداً أبديّاً، وَهوَ الّذي قد تَمَّ في الفصح. فإنَّ “النَّعَمَ” الَّتي قالَتها مَريم، تَعكِسُ تماماً إِجابَةَ المسيحِ نفسِهِ عِندَما دَخلَ العالم. وَهذا ما نَراهُ في الرِّسالَةِ إلى العبرانيين وَالّتي تُظهِرُ قَصدَ اللهِ مُنذُ الأَزل: “لم تَشَأْ ذَبيحَةً ولا قُرْبانًا ولكِنَّكَ أَعدَدتَ لي جَسَدًا. لم تَرتَضِ الـمُحرَقاتِ ولا الذَّبائِحَ عن الخَطايا. فقُلتُ حينَئذٍ هاءَنَذا آتٍ، أَللَّهُمَّ لأَعمَلَ بمَشيئَتِكَ”.(عبرانيين10: 5-7). فهذا المقطعُ الإنجيليُّ يُخبِرُنا أنَّه طاعةٌ لإرادَةِ الآب يأتي الكلمةُ بيننا، لِكَيّ يُقدِّمَ ذَبيحةً أبديّةً تفوقُ جميعَ الذّبائح، وَهيَ الذَّبيحَةُ الّتي تَفدي العالم. فَلَقدِ انعَكَسَت طاعةُ الابنِ في طاعَةِ الأُم، وَهُنا وَمِن خلالِ التقاءِ”النَّعَمَين” استطاعَ اللهُ أن يتَّخِذَ وَجهاً بشريّاً. وبذلك:

إنَّ خُطَّةَ اللهِ الخلاصِيّة تَنكَشِفُ تَدريجِيّاً في العَهدِ القَديمِ، وَخاصَّةً في كَلماتِ النَّبيِّ أَشعيا: “ها إِنَّ الصَّبِيَّةَ تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل”(أشعيا7: 14). فالعمانوئيلُ هو اللهُ معنا وبيننا. في هذهِ الكَلِماتِ يتِمُّ التَّنبُّؤَ بالحَدَثِ السِّريّ الفَريدِ الَّذي سيحدُث، وهوَ حَدَثُ سِرِّ التّجسُّدِ الّذي يُتَوِّجُ مسيرةَ نُبوءاتِ العهدِ القديم، والّذي نَحتَفِلُ بهِ اليومَ بفَرَحٍ وَسَعادة.

ولكن مِنَ المؤكَّد أنَّ مَريمَ قَبلَ أن تَقولَ كَلِمَةَ “نَعَم” كانَ لَديها أَمرَين: الأَوّلُ هو الاضطرابُ والثّاني هو التّساؤل!

الأمرُ الأول: إنَّ اضطرابَ مريمَ وخوفَها مِنَ الملاكِ: حَسَبَ القدّيسِ أمبروزيوس، هوَ أمرٌ طبيعيّ، فمِن عادَةِ العذارى أن يخَفْنَ ويَرتَعِدْنَ في حَضرَةِ الرَّجُل. وَأيضاً مِنَ الممكِنِ أن تَكونَ مريمُ اضطرَبَت في تَواضُعِها وذلكَ لأنَّ الملاكَ قد قَدَّمَ إليها مديحاً حيَّرها. وإذا عُدنا إلى الآيةِ الثّانِيَةِ عَشْرَةَ من نَفسِ الفَصِل نَرى هنالك “اضطرابَ زكريا وَهوَ في الهيكل”، ولكن هُنالِكَ فَرقٌ بَينَ فِعلَيّ الاضطراب وهو أنَّ مريمَ هنا قد شَعَرَت بدَعوَتِها الفريدة أمامَ هذا السِّرِّ العَميقِ على عكسِ زكريّا الكاهن.

الأَمرُ الثّاني وهوَ التّساؤل: فها هيَ مريمُ أيضاً تَطرحُ سؤالاً على الملاك كما فعل زكريا، ولكنَّ سؤالَ زكريا كانَ يدلُّ على عَدمِ إيمانِه، في حينِ أنَّ الملاكَ يقبَلُ سؤالَ مريمَ على أنَّه مستوحىً من إيمانٍ يريدُ توضيحاً. فقد كان سؤالُ مريمَ “كَيفَ يَكونُ هذا وَلا أَعرِفُ رَجُلاً؟” (لو1: 34) نَرى هنا أنَّ مريمَ كان يجب عليها أن تَسيرَ في الظُّلمةِ وأن تَثِقَ بالّذي دعاها. فإنَّ سؤالَ مَريمَ هنا كانَ يشيرُ على أنَّها مستّعدةٌ لِقَولِ “نَعم”، على الرّغمِ من المخاوفِ والشُّكوكِ الموجودةِ عِندَها.

ولكنْ أرادَ لوقا أن يزيلَ كلَّ شَكٍّ حولَ هذا التّساؤل، بكتابَتِهِ مَرَّتَين لفظَة “برثينوس” باليونانيّةِ أي عَذراء، فَقالَ”إِلى عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ ٱسمُهُ يوسُف، وٱسمُ العَذْراءِ مَريَم”(لو1: 27). فإنَّ كَلِمَةَ “عذراء” هِيَ من تُعطي المعنى الحقيقيّ لِسُؤالِ مَريمَ وجوابِ الملاك.

وقد كانَ جوابُ الملاكِ على سؤالِ العذراءِ “إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَٱبنَ اللهِ يُدعى”(لو1: 35). فحلولُ الرُّوحِ القدسِ على العذراءِ يُذكِّرُنا بالعهدِ القديم عندما مسحِ صَموئيلَ داؤودَ “فحلَّ روحُ الرَّبِّ عَليه”(1صم16: 13). وكما في أشعيا “يُفاضُ علينا الرّوحُ من العلاءِ فتصيرُ البرِّيَّةُ جَنّة”(أشعيا 32: 15). فعملُ الرّوح أن يُوَلِّدَ الحياةَ وينميها في كلِّ مكان. فالرّوحُ القدس، يغطّي مريمَ ويظللها ويوَلِّدُ الحياةَ في أحشائِها. وبالتالي تُصبح مريمُ المسكنَ الجديدَ ،التي تضمُ في أحشائِها الحضورَ الإلهيّ للمسيحِ ابنِ الله.

وأخيراً تقولُ مريمُ “أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ”(لوقا 1: 38). بهذهِ الكلماتِ يَظهَرُ عُمقَ تواضُعِ مريم، وهي الّتي تَدعو نفسَها أَمَةً، هي الّتي اُختيرَت لكي تكونَ أُمَّهُ وأمَّاً لجميعِ المؤمنين. إن جواب مريم للملاك يمتد في الكنيسة، المدعوة إلى جعلِ المسيح حاضراً في التاريخ. مُقدماً استعدادها لكي يستمر الله في زيارةِ البشرية برحمته. وهكذا تتجدد “نعم” يسوع ومريم في “النعم” التي نقولها عندما نقبل مشيئة الله في حياتنا.

الطالب الإكليريكي: سلامة عازر
24 كانون الأول 2023

Facebook
WhatsApp
Email