عظة الأحد الثاني من الزمن المجيء

في الأحد الثاني من زمن المجيء، يصف القديس مرقس، بشارةَ يوحنا المعمدان، وشهادته في إعدادِهِ لمجيء يسوع المسيح، وقبوله كمسيحا ومخلصا وابن الله. ومن هنا تكمن الاهمية، إذ في بداية يريدنا القديس مرقس أن نركز على شخصيّتين محوريتيّن وهما: السيد المسيح “ابن الله”، وسابقُةُ الذي يعدّ الطريق له “يوحنا المعمدان”.

أَود أن أُسلّط الضوء على يسوع المسيح كشخصيّة مركزيّة في إنجيل مرقس، إذ من مقدمة إنجيله، ومن خلال الكلمة الأولى، ألا وهي كلمة “بَدْءُ“، التي تدل على المبدأ والأساس، والأصل. وهي نفسها تفتتح سفر التكوين. هو أول سفر في الكتاب المقدّس، وفيه نجد رواية الخلق. وأيضا في مقدمة إنجيل القديس يوحنا “في البدء” (يو 1: 1)، هذه البدايات مهمه جداً لنا كمؤمنين، لأنه في كل بداية هناك عهد بين الله والإنسان.

وهذا ما يريد أن يبينه لنا القديس مرقس، أي أنه من البداية يريد عرض أحداث قد تمت، والمناداه بهذه البشارة المفرحة لكل نفس تلتقي بيسوع كونه “المخلص”. وهو المسيح، إذ مسحه الآب بروحه القدوس لتتميم عمل الفداء، وإعلان محبة الثالوث القدوس، المتجسدة في تاريخ خلاص للبشر. ونرى أن القديس مرقس، استخدم كلمة بدء: لكي يقول لنا، بأن هناك بداية جديدة، وخليقة جديدة، وحياة جديدة. كما هو الحال في بدء الخليقة الأولى، كانت كلمة الله (تك1: 1)، الكلمة التي بها خلق الله كل شيء من العدم والفراغ. وأما الآن فإن الكلمة جديدة: هي الكلمة التي يوجّهها الله في لحظة دخول ابنه إلى العالم. وهذا هو موضوع بشارته المفرحة: أن نُحسب بالحق أولاد الله باتحادنا مع الآب في ابنه الوحيد.

وأما يوحنا المعمدان إذ دعاه اشعيا النبي “الصوت الصارخ في البرية”، فهو الأسد الذي يزأر بصوته المرعب، في بريّة قلوبنا القاحلة، حتى لا نعتذر بعدم سماعنا كلماتِهِ. فهو كملاك يهيئ قلوبنا لحلول كلمة الله الحالّه فينا، وكصوت صارخ يهز أعماقنا القاحلة، لتترقب باشتياق عمل الله الخلاصي. وبما أن يوحنا هو الصوت، والرب هو الكلمة الذي كان في البدء (يوحنا 1: 1) فإن يوحنا هو صوت عابر وممهد، للمسيح الكلمة الأزلي الكائن منذ البدء.

يميز القديس كيرلس بين السيد المسيح الكلمة، وبين سابقه يوحنا المعمدان الصارخ، فيرى الأول كالشمس الساطعة التي يسبقها كوكب الصبح المنير، إذ يقول:” كان اشعيا على علم، بعمل يوحنا التبشيري، فبينما يسمي اشعيا المسيح إلهًا وربًا (إش 9: 6)، يشير إلى يوحنا بأنه رسول، وخادم، وهو المصباح الذي يضيء قبل ظهور النور الحقيقي. هو كوكب الصبح الذي يعلن بزوغ الشمس من وراء الأفق، فَتُبدد أشعَتُها الساطعة ستار الظلام الحالك.

فيوحنا كان صوتًا لا كلمة، يتقدم المسيح، كما يتقدم الصوت الكلمة”. هذا الصوت الذي يدوي في البرية، ولماذا البريّة؟ لأن البريّة تمتاز بأنها قاحلة لا تحمل في داخلها شجرة الحياة، كما في الفردوس الأول في عدن، فغايةُ يوحنا أن يُعلن عن السيد المسيح، أنه هو شجرة الحياة، التي تُغرس في بَرّيّةِ طبيعتِنا البشريّة، ليقيم منها فردوسًا خصباً بحلولِهِ فيها. وأيضًا تحمل البريّة في الكتاب المقدس أهميّة عميقة. إذ أنه في البريّة عاش شعب العهد القديم بداية مسيرته مع الرب. والى هناك أراد الرب ان يُعيد شعبه كما قال على لسان هوشع النبي: “لذلك هاءَنَذا أَستَغْويها وآتي بِها إِلى البَرِّيَّةِ وأُخاطِبُ قَلبَها” (هوشع 2: 16). فرساله يوحنا المعمدان هي التوبة تماماً كما وصفها ملاخي النبي، فعمل يوحنا المعمدان في خدمة التوبة بالمعمودية لمغفرة الخطايا.

ويخصص مرقس الإنجيلي التوبة على يدي يوحنا بالمعمودية بالماء، لتسبق معمودية الآتي بعده، الذي قال عنه المعمدان إنه ليس أهلاً أن ينحني ويحل رباط حذائه، الذي سيعمد بالروح القدس. وهي تشير الى موقف به يتحوّل الانسان من الخطيئة الى البرّارة، وتبديل الحياة والانفتاح على ذاك الذي يُهيئ له يوحنا الطريق. وأن يكون هناك عودة غير مشروطة الى المسيح. وعلامة التوبة هي قبول المعمودية من يد يوحنا. ومن هنا يُستدل على ان يوحنا كان يقف في خط الانبياء الذين نادوا بالتوبة (هوشع 5: 3-4). وقد بدأ يوحنا ينادي بأعلى صوته بالتوبة في منطقة الاردن مستخدما المعمودية علامة على هذه التوبة،. وهذه التوبة تُعدُّ الناس لعطيَّة الملكوت كما ورد في سفر اشعيا النبي “أغتَسِلوا وتَطَهَّروا وأَزيلوا شَرَّ أَعْمالِكم مِن أَمامِ عَينَيَّ وكُفُّوا عنِ الإِساءَة”(اشعيا 1: 16).

فمن خلال عمليّة التوبة نهيئ انفسنا إلى “غُفرانِ الخَطايا” فتشير الى تبدُّل القلب، والاقرار بالخطايانا التي تدفعُنا للانطلاق في حياة جديدة. فخدمة يوحنا الاعدادية وتأثيرها، وقوّة رسالته، لإعداد قلوب الناس لملاقاة المسيح.

ولكي نبدأ السير في هذه الطريق، أَرسَلَ الله رجلا يعلن عنها ويعدُّ لها، ويلفت الوعي إلى وجود أمر جديد قيد الإعداد. وعليه فمن الضروري أن نحضّر أنفسنا. وحالما يبدأ يوحنا بمنح المعمودية، يَخرج العديد من الناس إلى تلك الطريق في مسيرة. يترك أهل أورشليم الهيكل والذبائح، لأنها لم تعد تروي ظمأ الحياة. يَخرجون إلى البريّة حيث يصدح صوتٌ بقي صامتاً لمدة طويلة.

وملخص لهذا كله، تحثنا الكنيسة اليوم كمؤمنين من خلال زمن المجيء، وتنوِهُنا بأن نبادر، ونأخذ الخطوة الأولى الضرورية لبدء هذه المسيرة في قبولنا، إذ علينا أن نتواضع، ونكتشف حقيقتنا، والاعتراف بخطايانا، وحاجتنا للمغفرة. على هذا تقوم التوبة التي يُعلن عنها المعمدان، للدخول في طريق سيأتي منه الرب ونكون قادرين على رؤيّة هذا الطريق والسير فيها. كل هذا هو متمركز اليوم في حياتنا المسيحيّة. إنها بكل تأكيد الطريق التي يسير عليها الناس والتي ينتقلون عِبرها من الجلاء إلى أرض الميعاد؛ كما وهي الطريق التي يسير عليها الرب نفسه مع شعبه. إنها الطريق التي من خلالها سيأتي الرب لأنه سيعود ويمشي وسط شعبه. هذه هي بشرى الإنجيل، كما يقول القديس مرقس، الخبر السار المليء بالأمل. إنه خبر حضور الله بيننا وانتهاء الجلاء. نحن لسا وحيدين لأن الله معنا.

في النهاية، علينا أن نحفز اليوم كمعمَدين في زمن المجيء، علاقة تفاعليّة بيننا وبين الكلمة، إذ سيكون لدينا إمكانية جديدة، وبداية جديدة، وفرصة ذهبيةكي نعودَ بانفسنا، إلى السير على الطريق، وايضًا محاولة جديدة للإيمان بيسوع المسيح، الذي من خلال حياته يعبّر عن محبة الآب، وحضوره بين البشر.

الطالب الإكليريكي: مالك القلانزة
10 كانون الأول 2023

Facebook
WhatsApp
Email