شريعةُ الكمالِ
إخوتي في الإيمان وشركائي في نعمة وكلمة يسوعَ المسيح عليكُم السلام.
ما زلنا نستمعُ ونتأملُ في إنجيل القديس متى الفصل الخامس الذي يدورُ حولَ يسوعَ المعلّمِ الجليلي الجليل، حيثُ أنَّه يشقُّ طريقهُ بينَ الجموعِ المتلهفةِ لسماعهِ والمتشوقةِ إلى كلامِه. فقبلَ أن نتأملَ في هذا المقطعِ الإنجيليِّ البشير، أريدُ منكم يا إخوتي أن تتذكّروا معي كيفَ أُعطيتِ الشريعةُ “الكلمة” لموسى في العهدِ القديم. كانَ الشعبُ كلّهُ وكليمُهم (أي موسى النبي) على جبل سيناءَ ينتظرون تجليَ مجدِ الله ليستلِموا الشريعة، فكانت هذه الشريعةُ مُحاطةً “بالرُّعودِ والبُروقِ وصَوتِ البوقِ، والجَبَلُ يُدَخِّن، فارتعدَ وابتعدَ كلُ الشعبِ ووقفَ عن بعد، وقالَ لِموسى: كَلِّمْنا أَنتَ فنَسمعَ ولا يُكَلِّمُنا اللهُ لِئَلاَّ نَموتَ”(خر18:20-19)، بقيَ موسى وحدهُ لينقلَ الشريعةَ “الكلمة” لشعبهِ. واليومَ، بمسمعٍ منكُم، وفي ملءِّ الزمانِ كلمنا اللهُ “بِابْنٍ جَعَلَه وارِثًا لِكُلِّ شيءِ وبِه أَنشَأَ العالَمِين. هو شُعاعُ مَجْدِه وصُورةُ جَوهَرِه، يَحفَظُ كُلَّ شيَءٍ بِقُوَّةِ كَلِمَتِه” (عب1:1-3)، أَعني يسوع المسيح، المعلّمَ والمربيَ والمشرّعَ، فنرى الجموعَ والتلاميذَ وعيونهم شاخصةٌ إليه، فيدنونَ منهُ دون خوفٍ أو رعدةٍ، متلهفين، مشدودين، مشتاقين لتناول كلمته، فأُعجبت الجموعُ وبُهِتت بتعليمه، وقالوا له: كلِّمنا أنتَ يا صاحبَ السلطانِ، ولا يكلّمُنا كتبةٌ كثيرون. هذه هي قوةُ يسوع، إنهُ كان يعلّمُ كمن له سلطان “إكسوسيا”. فها هوذا يفتحُ يسوعُ فاه ويتحدّى “حكمة هذه الدنيا ورؤسائها”(1قو 6:2)، ويكشفُ للحاضرين أسرارَ السعادة لأبناءِ وأولادِ ملكوت السموات.
نراهُ يسكّنُ عاصفةَ لُجةِ قلقِ الجماهيرِ، ويُعلِّنُ ويصرّحُ ويقول هاتفاً بصوتٍ جهورِيّ: ” جِئْتُ لا، وألفِ لا لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِلَ، بَل لأُكْمِلَ”، ولم ولن يُلغى أيُّ “حرفٍ” أو “نقطةٍ” حتى يتمَ كل شيء. حاشا وكلا! ومعاذ الله للنقضِ! فإنّني لم آتِ لكي أقلعَ وأهدمَ، وأُهلك وأُنقضَ؛ بل أتيتُ لكي أبنيَ، وأغرسَ وأسهرَ “أنا ساهِرٌ، رقيبٌ على كَلِمَتي لِأَصنَعَها”(إر12:1) كما قلتُ لشعبي ولِأنبيائي في القدم، فأتيتُ لكي أُكملَ وأكونَ وسيطَ عهدٍ أفضلَ ومواعدَ أفضل، وخدمةَ أفضل، لأني أجعلُ شريعتي في ضمائركم وأكتبها في قلوبكم. أنتُم رسالتي كُتبت بالروحِ والحق وبألواحٍ هي قلوبٌ من لحمٍ، لا بالحبرِ ولا بألواحٍ من حجر، فأنتم عهدُ الروحِ لا عهدُ الحرف، عهدُ أبنائي وخاصتي ملكوت السموات، فشريعتي لم تكن ولن تكونَ في خبرِ كان، بل كانت “مقدسةً وصالحةً وعادلةً”(رو12:7)، و”مربيةً وحارسةً”(غل24:3)، فكيفَ لي أن أنقضها وهي التي كُتبت وخُطّت بإصبعِ الله!؟ حاشا! هذا هو رُقيُ المسيحِ، هذا هو جمالُ سلطانِ يسوع، أتى لكي يهدينا الكمالَ، وقد جاء من أجلِ ذلك، جاءَ لكي يُتمّم كل برٍّ “يحسنُ بنا أن نتمَّ كلَّ برٍ”(مت15:3)، وهذا ما قاله للمعمدانِ “دعني الآنَ وما أُريد”، والبرُّ هو أن نعملَ بشريعةِ وبمشيئةِ الله في الصغيرة قبل الكبيرة، وفي كلِ لحظةٍ من لحظات حياتنا، وأن نُحبهُ من كل قلوبنا وأفواهنا وكياننا، و”الثَّانِيَةُ مِثلُها: أن نُحبَّ قريبنا حبنا لنفسِنا”(مت39:22)، نعم! أنا أحبُّ قريبي مثل ما أنا بحب نفسي! أهلين يا قريبي! عن أيِّ شريعةٍ نتكلمُ! وبأي منطقٍ وحكمةٍ نتحدثُ! كلّمنا يا يسوعَ الناصري الجليليّ الجليل يا “حكمةَ اللهِ وقدرته”. فقالَ لهم: سمعتُم أنّه قيلَ لكم، أما أنا فأقولُ لكم: ” لا تغضب على أخيكَ، اذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك. سارعْ إِلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريقِ”. يذكِّرُنا يسوعُ ببعضِ هذه الواجباتِ لاسيما علاقتَنا مع القريبِ، مع الأخِ، لأننا بدون المحبةِ لسنا بشيءٍ، ولا ينفعُنا شيءٌ، فيذكّرنا القديس بولس بذلك: “إنّ مَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعةَ، فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًن هي كَمالُ الشَّريعةِ”(رو10:13).
فعلينا يا إخوتي أن “نسارعَ إلى إرضاء خَصمِنا ما دُمنا معَهُ في الطريقِ“، فنحنُ نعيشُ في زمنِ التوبةِ والعملِ والنعمة، وفي يومٍ من الأيام، وساعةٍ من الساعاتِ سوفَ يأتي “العريسُ ويَغلِقُ الباب”(مت 10:25)، فعنئذٍ لن يكون هنالك مجالٌ للصفح والغفران؛ لأنه يبدأ زمنُ العدل والدينونة والقضاء. فَمِنَ الآنَ وصاعداً علينا أن نردمَ هوّةَ الكراهيةِ والحسد ورائحة الغضب؛ لأنهُ بالمصالحة نكونُ على موجةِ وترددِّ يسوعَ “سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات”(مت22:18)؛ عندها قرّب قربانك إلى المذبح لكي تُقبلَ تقدمتُكَ وتكونَ مرضيةً لدى الرب، واشكُرُه لأنكَ ما دمتَ أنتَ والقريبُ في طريقٍ واحدةٍ وفي شركةٍ واحدة، فالمحبة للقريب، هي أعظمُ ذبيحةٍ تُقدَمُ للرب.
لتكن لغتُنا هي لغةُ يسوعَ، “لغةُ السير في العمق” وهذا هو شعارُنا كإكليريكية، فكانَ فمُه ينطقُ “بكلامٍ أبلغَ من كلامِ دمِ هابيل”(عب24:12) فهو لم ينادِ لا بالأخذِ بالثأرِ والعقابِ والغضبِ؛ بل نادى بالمصالحةِ والصفحِ و”بالنيرِ اللطيفِ” و”إلى إتمام كلِّ برٍّ”، فكان كلامهُ دائماً وأبداً وسرمداً “نَعَم” هو الَّذي تمَّ فيه جميعُ مَواعِدِ اللهِ. لِذلِك بِه أَيضًا نَقولُ لله :”آمين” إِكرامًا لِمَجْدِه. وهو الَّذي خَتَمَنا بِخَتمِه وجَعَلَ في قُلوبِنا عُربونَ الرُّوح”(2قور19:1-22). هذا هو جمالُ إيماننا وحلاوته، لأننا لم “نُمسح بقَرنِ الزيتِ ولا بالدهنِ”، بل “مُسحنا وختمنّا بعبقِ ورائحةِ وفيضِّ الروح القدس والنار”. وبهذا الروح “ننادي: أبا، يا أبتِ” ونُدعى أبناءَ اللهِ وأخوةً لكثيرين. فيا ليتَنا، ويا ليتَنا نُعرَفُ من نحنُ من خلالِ فمِنا ولغتِنا، لغةِ الحقِ والمصالحة.
آمين