القديس أغسطينس الأسقف ومعلم الكنيسة
ولد في مدينة تاغاستا في شمال إفريقيا عام 354. كان شبابه عاصفا مضطربا من حيث التعاليم والأخلاق. إلى أن اهتدى إلى الإيمان في مدينة ميلانو عام 387 وقبل العماد على يد القديس أمبروزيوس. عاد إلى وطنه وزهد العالم وسلك طريق النساك. اختير اسقفا على هيبونا (عنابة اليوم في الجزائر)، وبقي مدة أربع وثلاثين سنة يثقف الشعب بمواعظه وكتاباته العديدة. قاوم أضاليل عصره بجرأة وشجاعة. توفي عام 430.
من كتاب اعترافات القديس أغسطينس الأسقف
(الكتاب 7، 10، 18؛ 10،27: 33، 157- 163 و 255)
أيها الحقُّ الأزلي والحبُّ الحقيقي والأبديّةُ الحبيبة
نبَّهْتَني فعُدْتُ إلى نفسي، ودخَلْتُ في صميمِ فؤادي لأنَّكَ هَدَيْتَني. استطَعْتُ ذلك “لأنّك كنْتَ ناصِري” (ر. مزمور 29: 11). دخَلْتُ فأبصَرْتُ بعينِ نفسي، ومن فوقِ عينِ نفسي وعقلي، نورًا ثابتًا لا يتغيَّرُ، لا كالنورِ الطبيعيِّ الذي يراه كلُّ ذي جسدٍ، بل هو نورٌ من نوعٍ آخرَ، يفوقُه حِدَّةً ولمَعانًا ويَشمَلُ كلَّ شيءٍ بأشعّتِه. كلاّ، لم يكُنْ من نوعِه، بل مختلفًا عنه كلَّ الاختلافِ. ولم يكُن فوقَ عقلي، مثلَ الزيتِ فوقَ الماءِ، أو مثلَ السماءِ فوقَ الأرضِ، بل أسمى وأسمى، لأنّه هو خالقِي، وأنا الأدنى لأنّي الخليقةُ. من عرفَ الحقَّ عرفَ النورَ.
أيّها الحقُّ الأزلُّي والحبُّ الحقيقيُّ والأبديّةُ الحبيبةُ. أنتَ الهي، إليكَ أتنهَّدُ ليلَ نهارَ. منذ عرَفْتُك لأوَّلِ مرَةٍ رفَعْتَني إليك لأرى شيئًا ما يجبُ أن أراه، وأنا الذي أرى لا أقدرُ بعدُ أن أرى. بهَرْتَ عينَيَّ الضعيفتَيْن بإشعاعِك القويِّ، فارتعَدْتُ حبًّا وخوفًا. ووجَدْتُ أنّي بعيدٌ عنك، غريبٌ عن جوارِك، وكأنّي سمِعْتُ صوتَكَ من الأعالي: “أنا غذاءُ الكبارِ. كُنْ كبيرًا لتأكلَني. وإذا طعِمْتَني لن تُحَوِّلَني إليكَ مثلَ طعامِ الجسدِ، بل أنت تتحوَّلُ فيَّ.
رُحْتُ أبحثُ عن طريقةٍ تقَوِّيني فتمكِّنُني من التمتُّعِ بك فلم أجِدْ، حتى عانَقْتُ “الوَسِيطَ بَيَن اللهِ وَالنَّاسِ، الإنسَانَ يَسُوعَ المَسِيحَ، الَّذِي هُوَ فَوقَ كُلِّ شَيءٍ إلَهٌ مُبَارَكٌ مَدَى الدُّهُورِ” (ر. 1 طيموتاوس 2: 5)، وجدْتُه داعيًا وقائلا: “أنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاةُ” (يوحنا 14: 6). ووجَدْتُه طعامًا يختلطُ بالبشرِ، إذ إنَّ “الكَلِمَةَ صَارَ بَشَرًا” (يوحنا 1: 14)، لتُغذِّيَنا في طفولتِنا حكمتُكَ التي بها خلَقْتَ كلَّ شيء.
أحبَبْتُك متأخِّرًا، أيّها الجمالُ القديمُ والحديثُ في آنٍ. أحبَبْتُك متأخِّرًا! أنتَ كُنْتَ في داخلي وأنا كُنْتُ خارجًا! وفي الخارجِ بَحْثتُ عنك، ووثَبْتُ خاطِئًا واهمًا على جمالِ الخليقةِ التي أبدَعْتَها. كُنْتَ معي ولم أكُنْ معَك. استوقَفَتْني بعيدًا تلك الأشياءُ التي لو لم تكُنْ فيكَ لمَا كانَتْ. دعَوْتَني وصرَخْتَ بي فحطَّمْتَ صَمَمِي. سطَعْتَ فأضَأْتَ وهزَمْتَ عَمَايَ. ملأتَني بعطرِك، فاستنشَقْتُه وتنهَّدْتُ إليك. طعِمْتُ فجُعْتُ وعطِشْتُ. لمَسْتَني فاحترَقْتُ في سلامِكَ.