أنت عارفٌ بما فيَّ يا رب

من كتاب الاعترافات للقديس أغسطينس الأسقف

أنت عارفٌ بما فيَّ يا رب

سوف أعْرِفُكَ يا من تَعرِفُني، سوف أعرفُك كما تَعرِفُني. ادخُلْ إلى نفسي يا كيانَ نفسي، واسكُنْ فيها واملِكْ عليها، واجعَلْها مِلكًا لكَ، منزَّهةً عن كلِّ عيب. ذاك هو رجائي، ولهذا أتكلَّمُ، وبهذا الرجاءِ فرحْتُ فرحًا لا يشوبُه أيُّ غمٍّ. أمّا ما سواكَ من خيراتِ الدنيا، فبقدرِ اهتمامِنا بها وتحسُّرِنا عليها يجبُ أن يكونَ عدمُ اكتراثِنا لها وعدمُ التحسُّرِ عليها. أنتَ قد أحبَبْتَ الحقَّ، لأنَّ مَن يعمَلِ الحقَّ يُقبِلْ إلى النور. ولذا فإني أريدُ أن أعملَ الحقّ، في قلبي أولا وفي اعترافاتي هذه أمامَكَ، ثم أمامَ الشهودِ الكثيرين على ما أكتبُه الآن.

أمامَ عينَيْكَ، يا ربُّ، تنكشفُ أعماقُ النفسِ البشريّة. فأيُّ شيءٍ يَخفَى عليكَ حتى لو لم أعترفْ به؟ قد أُخفِيكَ أنتَ عن نفسي، ولكني لن أقوَى على إخفاءِ نفسي أمامَك. والآن وقد شهِدَتْ زفَراتي على ما في نفسي من كراهيةٍ لنفسي، فقد أصبحتَ أنتَ نوري وفرحي وحبِّي ورغبتي. ولذا فإنِّي أخجلُ من نفسي وأطرحُها جانبًا، وفيكَ، وحدَكَ، أبتغي رضى نفسي ورضاكَ.

كشَفْتُ لكَ، يا ربُّ، عن نفسي مهما كانَتْ حالةُ نفسي. وقلتُ لكَ لأيَّةِ غايةٍ أعترفُ لكَ. لم أفعَلْ ذلك بالألفاظِ والأصواتِ المنطلقةِ من الجسد، بل  بكلامِ النفسِ وهتافِ الفكرِ الذي تعرِفُه أذُنُكَ: إنْ كنْتُ شرِّيرًا فَاعترافي لكَ هو غمٌّ وكَرْبٌ وكَدَر، وإنْ كنْتُ صالحًا فاعترافي هو إقراري بأنَّ الصلاحَ الذي فيَّ ليس منَّي، “لأنَّكَ أنتَ تُبارِكُ البارَّ”، يا رب (مزمور 5: 13)، بعدَ أن تُبَرِّرَه وتطهِّرَه حينَ يكونُ خاطئًا (ر. روما 4: 5). اعترافي إليكَ، يا إلهي، هو اعترافٌ صامتٌ وصارخٌ في الوقتِ نفسِه: كلُّ ضجيجٍ من حولي يصمُتُ، وأمَّا قلبي فإنَّه يصرُخُ إليكَ.

أنتَ يا ربُّ تحاكمُني، لأنَّه وإن كان “لا يَعرِفُ ما في الإنسانِ غيرُ روحِ الإنسانِ الذي فيه” (1 قورنتس 2: 11)، إلا أنَّ في الإنسانِ أشياءَ لا يُدركُها حتى روحُ الإنسان الذي فيه. أمّا أنتَ، يا ربُّ، فتعرفُها، لأنَّكَ أنتَ خالقُه، ولهذا تعرفُ كلَّ ما فيه. وأنا الحقيرَ أمامَكَ، ومعَ كوني ورؤيتي نفسي أمامَك مثلَ الترابِ والرماد، إلا أني أعرفُ عنكَ ما لا أعرفُ عن نفسي.

“نحنُ اليومَ نَرَى في مِرآةٍ رؤيةً مُلتَبِسَةً، لا وَجهًا لِوَجهٍ” (1 قورنتس 13: 12). ولهذا ما دمتُ في غربةِ هذه الأرضِ بعيدًا عنك، فأنا أقرَبُ إلى ذاتي منِّي إليك. ولكني أعلمُ عنكَ أنَّكَ لا تقبلُ الفساد، وأمّا أنا فلا أدري حتى متى سوف أظلُّ صامدًا في وجهِ التجارب؟ رجائي يعتمدُ على أنَّك أنتَ أمين، “ولَن تَإذَاً في أن نُجرَّبَ فوقَ طاقتِنا، بل تؤتينا مع التجربةِ وسيلةَ الخروجِ منها بالقدرةِ على تحمُّلِها” (ر. 1 قورنتس 10: 13).

إنّي أعترفُ أمامَكَ، يا ربُّ، بكلِّ ما أعرِف عن نفسي وبما لا أعرِفُ. ما أعرفُه، بفضلِ نورِكَ أعرفُه، وما أجهلُه سوف يبقى لي مجهولاً إلى أن تتحوَّلَ الظلُماتُ وتصيرَ مثلَ ضياءِ النهارِ أمامَ وجهِكَ.

Facebook
WhatsApp
Email