أحد الثالوث الأقدس
“هل كان مثل هذا الأمر العظيم أو هل سُمع بمثله؟” (تث 4: 32)
تحتفل الكنيسة في هذا الأحد الأوّل بعد العنصرة بتحديد عقيدة الثالوث الأقدس، أي بتحديد قانون الإيمان كما أقرّه مجمع نيقية في السنة 325م. لا ترد عبارة الثالوث الأقدس لا في الكتاب المقدّس ولا في قانون الإيمان، وإنّما ترد الأسماء الثلاثة: الآب، الابن، الروح القدس.
أذكر جيّدًا حين قالت لي صديقة مقرّبة: لم نجعل إيماننا معقّدًا بعقائد لا تُفهم؟ وما الّذي يتغير في حياتنا إن أقرّينا عقيدة الثالوث أم لم نقرّها، أفلا يكفي أن نسعى إلى معرفة إرادة الله وإلى طاعتها؟ ولم بذل الوقت والجهد وحتّى الدماء في سبيل أفكار لا سبيل لنا للبرهان عليها ولا حتّى لفهمها؟ لم أجب في حينها، لأنّ تساؤلاتها لم تكن فضولاً ولا اعتراضًا، بل كانت صرخة صلاة إلى إله محتجب، يتقاتل باسمه الناس ويحبسونه في تحزّباتهم، يعترفون بسيادته لفظًا ويجعلون من بيته مغارة لصوص، ومن شريعته سببًا للحكم على الآخرين، ومن احتجابه حجّة للتسلّط والهيمنة والتلاعب بالضمائر والعقول. سؤال صديقتي كان كصرخة النبيّ: ليتك تشقّ السماوات وتنزل (أشعيا 63: 19) لأنّ كلامنا عن الله صار كلامًا لا يغذّي ولا يشبع، مملّ ومعقّد ولو أجبتها ببراهين العقل والكتاب لهزّت كتفيها ومضت بائسة.
لستُ أشكّ في أهمّيّة التفكير في الإيمان، ولكنّ ما نؤمن به ليس أوّلاً عقائد ولا براهين، ولا هو مشاعر سطحيّة ولا تديّن وتقوى وتنفيذ وصايا، ولا حلال وحرام ولا مسموح وممنوع. الإيمان رهان، رهان على أنّ لحياتنا قيمة ومعنى، على أنّ الله خلقنا بكلمته وما يزال يخلقنا بإصغائنا لكلمته، وهذه الكلمة الخالقة تقول الحقّ ولا تكذب، وتقول الحبّ ولا تتعب. إيماننا رهان على أنّنا قادرون على الحبّ الإلهيّ، قادرون على تخطّي الأنانيّة وعلى التغلّب على الموت وكلّ خوف. والعبادة عند الله ليست ذبائح وتقدمات، ولا هي تنفيذ أوامر وحقوق وواجبات. كلّ هذا يسمّيه الكتاب المقدّس “العبادة القديمة” وهي غير العبادة بالروح والحقّ الّتي يريدها الآب. ما يخبره الكتاب المقدّس هو أمر عظيم لم يُسمع بمثله، وهو أنّ الله لا يطلب عبوديّة الإنسان ليثبت ربوبيّته، بل إنّ الله المحتجب يتمجّد ويظهر مجده بأن يصير الإنسان مثله قادرًا على الحبّ مجّانًا بدون مقابل. هذا ما تسمّيه الكنيسة التأليه: الله يعطي الإنسان كل شيء، يشاركه في كلّ شيء، يشاركه في ألوهيّته. كما يقول الآباء: صار الله إنسانًا ليصير الإنسان الله.
ما علاقة كلّ هذا بعقيدة الثالوث؟ لم يخترع الآباء عقيدة الثالوث طلبًا للفلسفة أو للتعقيد، بل لأنّهم قرأوا الكتاب المقدّس على ضوء قيامة المسيح وتعليم الرسل وفهموا معنى الآية: “إنّما أريد الرحمة لا الذبيحة، معرفة الله أكثر من المحرقات” (هوشع 6: 6)، فهموا أنّ المسيح إنّما أتى ليعطينا الروح القدس الّذي هو روح الله نفسه، هذا الروح الّذي يجعلنا شركاء في الطبيعة الإلهيّة كما يقول مار بطرس (1بط1: 4)، ويملؤنا بكلّ ما في الله من كمال كما يقول مار بولس (أفسس 3: 19). فأساس إيماننا لا بأعمال نقوم بها أو صلوات نرفعها لنرضي بها آلهة خلقناها على مثالنا، بل بقبول الروح الّذي يعطيه يسوع لمن يؤمن به، وهو روح الله. فأساس إيماننا أنّ الله لم يرسل لنا نبيًّا يحمل أوامر للتنفيذ، بل أرسل لنا من هو كلمته بالذات، من هو مثله في الأزليّة والألوهيّة، من هو منه، لأنّ ما يحمله هذا الرسول ليست تعاليم بشريّة ولا قاعدة مسموحات وممنوعات، بل يحمل لنا روح الله نفسه، وهذا الروح يؤلّهنا إن قبلناه. فإن لم يكن الرسول مؤلّهًا والروح الّذي يحمله كذلك مؤلّهًا، فإيماننا باطل ورجاؤنا باطل. أقول إلى صديقتي: لو لم يكشف الله عن نفسه لكنّا أسرى الخوف، وعبيدًا لا يعرفون ماذا يريد سيّدهم، أمّا وقد كشف لنا الله عن نفسه بابنه الوحيد، وأعطانا به روح البنوّة، فنحن نحمل إلى العالم خبرًا سارًّا لم يسمع بمثله من قبل. ومن شدّة الفرح وبفيض الشكر، تنسكب فينا العبادة الروحيّة أعمالاً صالحة وصلوات وطقوس ووصايا هي ليست أوامر للتنفيذ بل وعود تتحقّق فينا يومًا بعد يوم.
بقلم الأب داني يونس اليسوعيّ