التفاعل بين ابعاد التنشئة
استنادا للإرشاد الرسولي “أعطيكم رعاة” لعام 1992م، إن الابعاد التي تتفاعل في ما بينها في قلب مسيرة التنشئة وفي حياة الكهنة، أربعة:
البعد الإنساني الذي هو الأساس الضروري والمحرك لكل الحياة الكهنوتية.
البعد الروحي الذي يحدد نوعية الخدمة الكهنوتية.
البعد الفكري وهو يوفر الوسائل المنطقية الضرورية لفهم القيم الخاصة التي يجب أن يتحلى بها الراعي، فيجسدها في حياته ويتمكن من نقل المفاهيم الايمانية بطريقة ملائمة.
البعد الرعوي الذي يؤهل الكاهن لخدمة كنيسة مسؤولة وخصبة.
كل بعد من هذه الابعاد الأربعة للتنشئة يهدف إلى تحويل قلب الكاهن ليصبح مشابها لقلب المسيح: المحب، العطوف، الخادم، الباحث عن الخراف الضالة، والباذل حياته في سبيلها. استنادا إلى المجمع الفاتيكاني الثاني، إن غاية المسار التربوي في التحضير للخدمة الكهنوتية هي في الواقع تأهيل الطلاب “لعيش الشركة مع محبة المسيح الراعي الصالح”.
1) التنشئة الإنسانية
إن الهدف من التنشئة الإنسانية هو مساعدة الاكليريكيين على أن يصبحوا ناضجين إنسانيا وهادئين ومستقرين. على هذا الأساس يمكن أن يوجد كهنة يتحلون بسمات اللطف والمحبة، أصيلون ومخلصون وأحرار داخليًا ومستقرون ومؤثرون وقادرون على إقامة علاقات شخصية سلمية وعيش المشورات الإنجيلية دون جمود أو رياء أو ثغرات.
إن التنشئة الإنسانية هي أساس كل تنشئة كهنوتية، وهي تساعد الاكليريكي أن ينمو نموًا متكاملًا. من الناحية النفسية، تركز على اكتساب شخصية مستقرة، تتميز بالتوازن العاطفي، وضبط النفس، والنضوج الجنسي. كما أن تطوير الحس الجمالي (الشعور بالجمال) هو أيضًا جزء من التنشئة الإنسانية.
إن علامة التطور المتناسق للشخصية الإنسانية هي القدرة الناضجة على العلاقات مع الرجال والنساء من مختلف الأعمار وفي مختلف الظروف الاجتماعية.
2) التنشئة الروحية
إن أساس التنشئة الروحية يبنى على إقامة علاقة شخصية عميقة مع الله، تتغذى بالصلاة المطولة والصامتة. تقترح الوثيقة بعض الخطوات العملية لتغذية الحياة الروحية وهي: التأمل الروحي العميق في كلمة الله، والمشاركة اليومية بإيمان في سر الإفخارستيا، وصلاة ليتورجيا الساعات، والذهاب المتكرر والمنتظم إلى سر التوبة، والتدرب على الزهد والانضباط الداخلي، والإرشاد الروحي الذي هو وسيلة مميزة للنمو المتكامل للإنسان.
للمشورات الانجيلية (الطاعة والبتولية والفقر) دور مهم في روحانية الكاهن. يتعلم الإكليريكي، اتباع المعلم بإيمان وحرية قلب، فيقدم نفسه بالطاعة عطيةً لخدمة الله والبشر. كما أن الذين يستعدون للكهنوت في الكنيسة اللاتينية عليهم قبول البتولية والترحيب بها على أنها هبة من الله لهم. ليس من الفطنة قبول إكليريكي لا يتمتع بنضج عاطفي حر وهادئ، بل هو أمر خطير. وأخيرا، يجب أن ينمي الاكليريكيون روح الفقر بطرق عملية، اقتداء بالمسيح الذي “افتقر مع أنه كان غنياً” ليغنينا. من ثم يجب أن يكون للفقراء والضعفاء مكانة خاصة في قلوبهم. وعليهم أن يكونوا شهودًا للفقر من خلال بساطة الحياة والتقشف، حتى يكونوا صادقين، ويصدقهم الناس، عندما يتكلمون على العدالة الاجتماعية الحقيقية.
3) التنشئة الفكرية
تهدف التنشئة الفكرية إلى تحقيق كفاءة واسعة في الفلسفة واللاهوت، إلى جانب تأهيل علمي عام، ما يكفي لتمكينهم من إعلان رسالة الإنجيل إلى الناس في يومنا هذا بطريقة موثوقة ومفهومة. وتمكنهم هذه المؤهلات العلمية من الدخول في حوار مثمر مع العالم المعاصر. قال المجمع الفاتيكان الثاني إن معرفة الفلسفة واللاهوت تساعدنا على سماع وتمييز وتفسير الأصوات العديدة في عصرنا، والحكم عليها في ضوء كلمة االله. لذلك يجب دائما المزيد من التعمق في الحقيقة الموحى بها ، لفهمها بشكل أفضل، وتقديمها بطريقة ناجعة.
4) التنشئة الرعوية
تشدد الوثيقة على ضرورة الروح الرعوية في التنشئة الكهنوتية. إذ يجب أن تجعل التنشئة كهنة المستقبل خبراء في فن التمييز الرعوي، أي القدرة على الاستماع بعمق إلى المواقف الواقعية والقدرة على الحكم الصائب في اتخاذ الخيارات والقرارات. إن موقف الراعي الصالح الذي يبحث عن خرافه ويسير معها جنبًا إلى جنب ويقودها، هو الموقف الصحيح في قلب الاكليريكي فيكون حكيما ورحيما ومحبا للرعية. تعني الخدمة الكهنوتية، كما يقول البابا فرنسيس، أن نكون رعاة “ونحمل رائحة الخراف”، أي نعيش في وسطهم لنقدم لهم رحمة الله.
يجب أيضًا إيلاء اهتمام خاص لإعداد الاكليريكيين للمتطلبات والأساليب الخاصة للمرافقة الرعوية للأطفال والشباب والمرضى وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة والذين يعيشون في حالات العزلة أو الفقر. وكذلك العائلات يجب أن تحظى باهتمام خاص. وأخيرا، تدعو الوثيقة إلى إيلاء اهتمام خاص للعظة، لأنها المعيار للحكم على قرب الكاهن وقدرته على التواصل مع شعبه.
التنشئة الكهنوتية الدائمة
تبدأ التنشئة الكهنوتية الدائمة منذ لحظة الرسامة الكهنوتية، وتستمر حتى نهاية حياته. المقصود هنا هو ضمان الأمانة للخدمة الكهنوتية في مسيرة رجوع إلى الله مستمرة، وذلك لإحياء الهبة التي نالها الكاهن في الرسامة. الكاهن نفسه هو المسؤول الأول عن تنشئة نفسه المستمرة. وتقع على عاتق الأسقف المسؤولية لكي لا يحمِّلَ الكهنة المرسومين حديثًا مسؤوليات كثيرة مرهقة أو مواقع حساسة للغاية. من الجيد وضع نظام للمرافقة الشخصية للكهنة الشباب لتعزيز جودة خدمتهم والحفاظ عليهم ومساعدتهم على مواجهة تحدياتهم الرعوية الأولى بفرح وحماس.