التراث العربي المسيحي القديم

الفصل الثاني عشر

المسيحيون في ظل الخلافة الاموية والعباسية

1) دولة الخلافة الأموية

بعد مقتل علي – سنة 40هـ تهيأت الظروف للأمويين لكى يبسطوا سلطانهم على الدولة الإسلامية.فهم سلالة “أمية بن عبد شمس” أحد سادات قريش وزعمائها قبل الإسلام.

وقد كان سفيان بن حرب والد معاوية أحد أبناء هذا البيت الأموى ومن أكبر سادات قريش، وإليه كانت قيادة قوافل التجارة، وإدارة شئون الحرب، ولم يسلم إلا عند فتح مكة، وروى عن معاوية أنه أسلم يوم عمرة القضاء وكتم إسلامه حتى فَتْح مكة، وقد لقى أبوسفيان من الرسول ( معاملة كريمة حيث أعلن عند فتح مكة أن “من دخل دار أبى سفيان فهو آمن”). واستخدم الرسول معاوية كاتبًا له، واستعان الخلفاء الراشدون بأبناء البيت الأموى، فكان يزيد بن أبى سفيان أحد قادة الجيوش الأربعة التى بعث بها أبو بكر -رضى الله عنه- لفتح الشام سنة 11هـ/633م.

وقد حارب يزيد وتحت إمرته أخوه معاوية فى عهد الخليفة عمر فلما توفى يزيد سنة 18هـ/ 639م، استعمل الخليفة “عمر” معاوية بن أبى سفيان على دمشق وعلى خراجها، ثم جمع له الشام كلها.

ولقد مهدت الأقدار لمعاوية بن أبى سفيان فى أن يخطو خطوات ثابتة لكى يتولى منصب الخلافة، وبايعه الحسن بن على -رضى الله عنه- الذى كان قد خلف أباه وصار معه ما يقرب من اثنين وأربعين ألفًا من الجند، لكنه لم يطمئن إلى ولاء العاملين معه.

كان ذلك عام 41هـ/662م، وهو عام الجماعة الأول، لأن معاوية نال فيه البيعة بالخلافة من جميع الأمصار الإسلامية، ويعتبر هذا العام الميلاد الرسمى لقيام الدولة الأموية.

سقوط الدولة الأموية

لقد خلف “هشام” أربعة من الخلفاء الأمويين عجزوا عن ممارسة السلطان، وأفلت منهم زمام الحزم، وأتاحوا الفرصة لعوامل الهدم والاضمحلال، فراحت الدولة الأموية تتهاوى وتسقط سنة 132هـ/750م.

وقد كان ظهور العباسيين فى هذه الفترة على مسرح الأحداث يمثل ضربة قاصمة أطاحت بالبيت الأموى عن عرش الخلافة الإسلامية.

فبعد وفاة الخليفة “هشام بن عبد الملك” بويع “الوليد بن يزيد” بالخلافة فى 6من ربيع الآخر سنة 125هـ/ 723م، وهو اليوم الذى توفى فيه هشام.

وقد كان “الوليد بن يزيد” النموذج الذى يمثل مساوئ نظام وراثة الخلافة، لم يكن الوليد بن يزيد بن عبد الملك ابنًا لهشام بن عبد الملك بل ابن أخيه.
إن نظام الشورى يتيح للجميع وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب حتى يستريح ويريح.

ولكن “نظام الوراثة” يأتى لدولة الإسلام “بالوليد” الذى أشاع عنه خصومه أنه كان منهمكًا فى الملذات، مستخفّا بأمر الأمة، مشغولا باللهو، مجاهرًا بالمعاصى، وكان الإمام الزهرى يبغضه ويحث هشامًا على خلعه.

لقد اجتمع بعض أهل “دمشق” على خلعه وقتله لمجاهرته بالإثم، وكان ذلك فى جمادى الآخرة سنة 126هـ/ 744م، بعد أن قضى فى الخلافة سنة واحدة، وشهرين، وأيامًا، وكان الذى يقود الثورة عليه ابن عمه يزيد بن الوليد الذى وصفه أنصاره بأنه كان ورعًا تقيّا محافظًا على الدين راعيًا للإسلام والمسلمين، لكنه لم يَبْقَ فى الحكم إلا خمسة أشهر وعدة أيام حيث مات بالطاعون.

وبايع المسلمون بعده أخاه “إبراهيم بن الوليد” خلفًا له، لكنه لم يكد يتولى الأمر حتى سار إليه مروان بن محمد بن مروان بن الحكم ثائرًا للوليد بن يزيد.
لقد خلع “مروان” “إبراهيم” وهرب إبراهيم من دمشق، وظل أتباع مروان يلاحقونه حتى عثروا عليه وقتلوه، ولم يلبث فى الخلافة غير سبعين يومًا وقيل ثلاثة أشهر.

وتولى “مروان” الخلافة فى صفر سنة 127هـ/ 745م، ليشهد عهدًا من الفتن والاضطرابات.

وفى عهده اضطربت الأمور فى البلاد، وخرج البعض على الطاعة، وانتهز العباسيون هذا التفكك، والتصدع فراحوا يعملون على إسقاط دولة بنى أمية لتقوم مكانها دولة العباسيين.

لقد حمل لواء الدعوة للعباسيين أبو مسلم الخراسانى، واستطاع الاستيلاء على “خراسان” ووطد سلطانه فيها.

وفى الثالث من شهر ربيع الأول سنة 132هـ/ 750م، استولى أبو مسلم على “نيسابور” وراح يعلن الدعوة لأبى العباس السفاح أول خلفاء بنى العباس، فماذا فعل مروان؟ وكيف واجه هذا التيار الزاحف ؟ لقد أعد جيشًا للقضاء على العباسيين، وكان اللقاء على “نهر الزاب” ولكن دارت الدائرة على مروان وجيشه، ففر هاربًا إلى مصر.

ولم ينته الأمر عند هذا الحد، بل دارت معركة أخيرة حاسمة، لقد لاحقه العباسيون وطاردوه، ودارت معركة أخيرة بينه وبينهم على ضفة النيل الغربى عند بلدة “بوصير”، وقُتِلَ مروان، وبمقتله انتهت دولة الأمويين التى استمرت قرابة إحدى وتسعين سنة ليشهد العالم مولد دولة جديدة تحمل راية الإسلام هى دولة بنى العباس.

2) العلاقات الاسلامية المسيحية في العهد الاموي
من كتاب “النصارى في خلافة بني امية” الاب سهيل قاشا، الجزء الاول، ص. (125)

اتبع خلفاء العهد الاموي في بداية حكمهم، منتهى التسامح مع المسيحيين، وقربوهم اليهم، فازدهرت الدولة في ايام معاوية بن ابي سفيان، وعمّ السلام، وتمتع الناس بحرية مطلقة. فكان المسلمون يطلقون لهم الحرية لقاء الجزية في امور دينهم.

كانت العلاقات الاسلامية المسيحية في العهد الاموي تأخذ طابع المد والجزر بحسب الخلفاء والحكام، الا انه كان طابع التسامح هو الغالب في هذه العلاقات. بمعنة اخر، ان الخلفاء الامويون، لقرب عهدهم بالمسيحية في بلاد الشام، قربوا اليهم المسيحيين. فاوكلوا اليهم الادارة والترجمة، سيما في عهد معاوية بن ابي سفيان، الذي تزوج من ميسون الكلبية المسيحية ام ولده يزيد. وايضا في عهده اشتهر سرجون بن منصور وولده يوحنا الدمشقي صديق يزيد بن معاوية الحميم.

اسند معاوية الادارة المالية في الدولة لأسرة مسيحية توارث ابناؤها الوظيفة لمدة قرن من الزمان، بعد الفتح الاسلامي. ومن افرادها منصور ابن سرجون (او سرجيوس، الذي ساهم في تسليم دمشق الىالعرب المسلمين) نصرانيا من اسرة سورية. كان بعض رجالها يتولون شؤون بيت المال في عهد البيزنطيين. وكذلك حفيده القديس يوحنا الدمشقي، الذي كان في شبابه من ندماء يزيد بن عبد الملك.

كما اسند معاوية الى طبيبه المسيحي ابن آثال، جباية خراج حمص (اليعقوبي “تاريخ 2:223)، وهي وظيفة مالية لم يسبق من قبل ان وصل اليها احد (حتى “تاريخ العرب” 2/259).

وفي ولاية الوليد ابن عتبة على الكوفة ولى ادارة سجين قريب من الكوفة سنة 26ه رجلا مسيحيا (الاصفهاني “الاغاني” 4/183). وكان سرجون كاتبا مسيحيا لمعاوية، وقبل لمّا نقلت الدواوين الى العربية قال سرجون لابناء جلدته: “اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة، فقد قطعها الله عنكم” (البلاذُري “فتح البلدان” ص 193؛ ترتن، “اهل الذمة” ص 169). ومن هذا يظهر ان اغلب الدواوين والموظفين كانوا من المسيحيين. ومع ذلك فقد بقوا يشغلون مناصب كبيرة في الدولة وظلوا يعاملون احسن معاملة (الصالح “النتظم الاسلامية” ص. 365؛ حتى “الدولتان” ص 59). وقد اباح بنو امية لهم ممارسة الاحتفال باعيادهم والاحتفاظ بمعابدهم (رسلر “الحضارة الاسلامية” ص 78).

ونقل الخليفة الوليد الاول (705-715) قبة مصنوعة من النحاس مغشاة بالذهب من كنيسة في بعلبك الى المسجد الذي كان قد شيده ابوه في بيت المقدس. كما انه استولى على كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان في دمشق وحولّها الى مسجد يُعدّ مناروع المساجد في العالم. وكان الملسمون، قبل عهد الخليفة الوليد يشاركون المسيحيين في هذه البقعة المقدسة.

وكان الاخطل التغلبي المسيحي، شاعر البلاط الاموي ومن ندماء يزيد بن معاوية واصدقاء القديس يوحنا الدمشقي. ويقال انه كان يدخل على الخليفة عبد الملك (685-705)، والصليب مدلى من عنقه ولحيته تنفض خمرا، فينشده الشعر ويطريه.

وكان المنوفيزيون والموارنة يحتكمون الى الخليفة في الامور الدينية التي يختلفون عليها، فيقضي فيما بينهم. ويعزو تيوفانس المؤرخ الى معاوية بناء كنيسة للمسيحيين في الرها، وقد هدمها الزلزال فيما بعد.

الخليفة عمر بن عبد العزيز (717-720م).

عُرف الخليفة عمر بن عبد العزيز (717-720) يورعه وزهده، واتصف عهده بالعدل والاحسان لاهل الذمة؛ فيقول المستشرق الهولاندي دوزي: “والحقيقة ان اهل الذمة تمتعوا بالكثير من عدل عمر ورحمته. فقد امر عمّاله بالا يهدموا كنيسة او بيعة، صولح اهل الذمة عليها”. فهو طبق العدل بالحفاظ على مقدسات اهل الذمة، وبنفس الوقت راعى مصالح الاسلام بان منع اهل الذمة من بناء البيع والكنائس تطبيقا للعهود السابقة بينهم وبين المسلمين في الوقت الذي لم يعمل أي خليفة على تطبيقها قبلا.

كما منع الخليفة عمر بن عبد العزيز عماله من اتخاذ المسيحيين يتصرفون في مصالح المسلمين مستندا الى قول القرآن …

يقول المستشرق بارتولد “لم يطلب اهل الذمة، تنفيذ الشروط حرفيا، كارتدائهم ثوبا مميزا لهم طبقا لما ورد فيما نُسب الى عهد عمر، فكان العمال المسيحيين يلبسون اثوابا كاثواب عظماء المسلمين ويجعلون لانفسهم مقاما عاليا امام العامة” (بارتولد “تاريخ الحضارة”، ص 55).

ويُعقّب سعيد بن بطريق (ت 328هـ/939 م) على زي المسيحيين في العهود الاسلامية فيقول: “ولم يترك النصارى يلبسون السواد، ويركبون الخيل حتى ايام المتوكل” ( (ابن بطريق “التاريخ المجموع، ص 59).

وكان مسيحيو العراق يلبسون الثياب كغيرهم من السكان. وقد وردت في المعاجم العربية والشعر مفردات في وصفهم المسيحيين، او شرحوها بقولهم انها من ثياب المسيحيين. وكانت كل طبقة من المسيحيين تلبس زيا، ونوعا خاصا من الملابس، فالبطاركة كانوا يلبسون “الربط”، وهي الملاءة المنسوجة قطعة واحدة. ومن البسة المسيحيين ايضا “المُوف” وهو ضرب من الخفاف، يلبس فوق الخف، ينتعل به السادة من المسيحيين. واما الزهاد والرهبان فكانوا يلبسون المسوح، وهو من الشّعر (شيخو “النصرانية وادابها” ص 218-219).

نستخلص من هذه الاجراءات ان الخليفة عمر بن عبد العزيز كان يرمي الى تشجيع الاسلام، كقول المستشرق ديورانت: “ان سياسة عمر بن عبد العزيز كانت ترمي الى تشجيع المسيحيين واليهود والزرادشتيين عل اعتناق الاسلام”. ويؤيد هذا ما رواه الطبري (ت 310هـ/922 م) حيث شكا اليه احد عماله فقر المال، اجابه بقوله: “والله، لوددت ان الناس كلهم اسلموا حتى نكون انا وانت حراثين نأكل من كسب ايدينا” (الكبري “تاريخ” 8/148).

ومن ابرز القضايا التي عالجها عمر بن عبد العزيز، مشكلة الضرائب، فألغى بعضها كما ونظم اوقات جباية الخراج. فذكر ابو يوسف (ت 182هـ/798 م) انه: “قيل لعمر بن عبد العزيز، ما بال الاسعار عالية في زمانك، وكانت في زمن من كان قبلك رخيصة؟ قال: ان الذين كانوا قبلي كانوا يكلّفون اهل الذمة، فوق طاقتهم، فلم يكونوا يجدون بداع من ان يبيعوا ويكدّسوا في ايديهم، وانا لا اكلّف احدا الا طاقته فيبيع الرجل كيف شاء” (ابو يوسف “الخراج” ص 132).

بهذا الاجراء، استطاع الخليفة ان يرفع مستوى معيشة جماهير كبيرة من سكان البلاد الاسلامية، وهم الفلاحون. فكتب عمر بن عبد العزيز الى عامله على الكوفة ان يعطي اهل الذمة ما بقي من خراج الكوفة، فيسددوا دينهم، ويساعد من اراد الزواج منهم”. وختم رسالته بقوله: “… قو اهل الذمة، فاننا لا نريدهم لسنة، ولا لسنتين…” (ابن عبد الحكيم “سيرة عمر” ص 67).

وكانت غايته ايضا التخفيف عن كاهل اهل الذمة، ورفع مستواهم الاقتصادي؛ فقد امر واليه على العراق: “… ان يدع لاهل الخراج، من اهل الفرات ما يستختمون به الذهب، ويلبسون الطيالة، ويركبون البرادين” (قاشا “لمحات” ص 55). وقد نصح الولاة وحذرهم من الاساءة والاعتداء على اهل الذمة او اضطهادهم، واوصى بحسن معاماتهم، فكتب الى واليه على خراسان “لا تضرين مؤمنا ولا معاهدا سوطا الا في الحق” (الطبري “تاريخ” 6/569).

كما كتب الى عامله على البصرة، عدي بن أرطأة، يوصيه بالانفاق من بيت مال المسلمين على من عجز عن العمل، واصابته فاقة من اهل الذمة، فقال: “اما بعد… وانظر من قبلك من اهل الذمة قد كبرت سنُّه وضعفت قوته، وولّت عنه المكاسب، فاجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه” (ابن سلام “الاموال” ص 45-46).

ويعطي المستشرق فلهاوزن، جانبا من سياسة واخلاقية عمر بن عبد العزيز السامية فيقول: “حقيقة ان عمر كان مسلما متحمسا حسن الاسلام، وكان المسيحيون على حدود العدل اطلاقا. وقد حماهم، وحفظ لهم كمائسهم، غير انه لم يسمح لهم بان يحدثوا كنائس جديدة” (فلهاوزن “الدولة العربية وسقوطها” ص 242).

غير ان هذه العلاقات توترت نوعا ما في عهد عبد الملك بن مروان، الذي عرّب الدواوين والنقود. وبذلك ابعد الموظفين المسيحيين من ادارة الدولة وشؤون الترجمة، وكان عهده فاتحة عهد اضطهاد وان بالخفية.

ثم عادت العلاقات جيدة في ايام هشام بن عبدالملك ومن بعده حتى سقوط الدولة الاموية عام 750م.

3) الامبراطورية العباسية

العباسيون: سلالة عربية، تولت حكم الدولة العربية الإسلامية (750-1258). ينتمي العباسيون إلى العباس عم الرسول محمد (ص). تكاتفوا مع الشيعة وغيرهم من المتذمرين من الحكم الأموي وخاصة الفرس، في سبيل إسقاط الخلافة الأموية. بدأت الدعوة العباسية عام 718 تحت زعامة محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ثم ابنه إبراهيم الإمام الذي أسند إلى أبي مسلم الخراساني مهمة قيادة الدعوة في خراسان. أعلن أبو مسلم الثورة على الأمويين عام 747، بعد ثلاث سنوات انتصر العباسيون وأسروا محمد بن مروان، آخر الخلفاء الأمويين. وقعت المعركة الفاصلة بين العباسيين والأمويين في على ضفة الزاب الكبير، وكانت الغلبة للعباسيين، الذين استهلوا عهدهم بملاحقة الأمويين وتعذيبهم، ففر منهم عبد الرحمن الداخل ليؤسس دولة أموية مستقلة في الأندلس. كان أول خلفائهم أبو العباس (الملقب بالسفاح)، خلفه أخوه أبو جعفر المنصور، الذي بنى مدينة بغداد في العراق، ونقل إليها عاصمة الخلافة الإسلامية من دمشق، وأخمد الثورات التي قامت ضد العباسيين في بلاد فارس. 

تظهر اهمية “الثورة العباسية” في التاريخ الاسلامي، من الطريقة التي يتكلم عنها المؤرخون عن اختفاء المملكة الاموية وومجىء الامبراطورية العباسية، مظهرين انه اكثر من مجرد تغيير بسيط في السلالة الحاكمة.

من بين الاسباب لهذا التغيير العميق في العالم الاسلامي، يجب الاشارة الى عدم قدرة الحكم السابق للامويين على ادارة وتماسك الوحدة بين عناصر دولة كثيرة الاختلاف وفي تزايد مستمر، وعلى مساحة ارض تزداد يوما بعد يوم اتساعا، وذلك بسبب صفة الحكم العربي الخالص الذي تميز به حكم الامويين.

انتهى عصر الفتوحات والخلافة الاموية، مؤسسة الامبراطورية العربية، رأت نفسها امام ضرورة استعياب بالكامل المرتدين الجدد من غير اصل عربي، ولا سيما الطبقة الوسطى الفارسية، التي لم تكن قد تم اسلامتها بشكل كامل. انه في وسط هذه الفئة بدأت يظهر عدم رضى متزايد وارادة قوية للمشاركة او للوصول الى الحكم. وما كان يجب ان يتم نتيجة استعياب سلمي وتطور طبيعي، تحول بفضل عدم قدرة الحكام الامويين الى عنف ومن ثم الى ثورة.

اغتنم العباسيون المقيمون في الكوفة عدم رضى هؤلاء المرتدين، ْوانتمائهم الشيعي، ومعارضتهم للحكم الاموي، امام تسلط نخبة من العرب، فقرروا اخذ زمام المعارضة، واستطاعوا ان يستغلوا قوى الحركات الشعبية للاستفادة منها. وعندما وصل العباسيون الى السلطة، تحولوا عن المذهب الشيعي، وعادوا الى المنهج السني، ولكن الغوا كل تفرقة عنصرية بين العنصر العربي والعنصر الغير العربي.

نظرا لاهمية هذا التغيير، سنحاول ان نرى بعض المميزات الرئيسية للامبراطورية العباسية. عاملان لهما الاهمية الكبرى في تاريخ الطائفة النسطورية التي سنتتبع تطورها: نقل عاصمة الامبراطورية الى بغداد، والسياسة الدينية لهذه السلطة واستيعابها للعناصر غير العربية.

أ) بغداد عاصمة الامبراطورية الجديدة

اول الدلائل على ا ن تسلم العباسيون للسلطة لم يكن مجرد تغيير بسيط في العائلة الحاكمة، هو نقل العاصمة نحو الشرق. 

ما يهمنا هنا ليس معرفة الاسباب التي دفعت الخلفاء لترك الكوفة والانبار او المدائن، او ما هي الاسباب بالتأكيد التي من اجلها اختار المنصور موقع بغداد؛ وليس ايضا كيف تم بناء “المدينة المدورة” على مراحل مختلفة. ما يهمنا هو ان نرى نتائج تغيير مركز ثقل العالم الاسلامي نحو الشرق، حيث تعاقبت فيه عدة امبراطوريات كبيرة.

ان تغيير العاصمة من دمشق الى بلاد “ما بين النهرين” يعود الى تغييرات هامة في المجال الزمني والديني جاءت مع مجىء الخلفاء العباسيين. فبينما كان الامويون متوجهين اهتمامهم نحو امور البحر الابيض المتوسط، توجه اهتمام الخلافة العباسية نحو الشرق. فاصبحت الخلافة اسيويا، وتطورت تجارتها نحو الخليج الفارسي(العربي) والبحر الهندي، وتوسعت امبرطوريتها نحو اسيا الوسطى، وبدأت استقلالها شيئا فشيئا في اسبانيا، وفي المغرب، ولاحقا في مصر. واستكفت بموقف الدفاع السلبي امام البيزنطيين؛ والغزوات الصيفية لم تعد الا حركات من شأنها ان تحافظ على فكرة الحرب المقدسة، ولتسمح للامراء الشباب ان يتميزوا، وللجنود ليتدربوا ويحافظوا على عادة كسب الغنائم من العدو او من غير المؤمنين.

لم تكن بغداد، بسبب موقها الجغرافي، عاصمة لا للفرس، ولا لسوريا، ولا لمصر ولا للجزيرة العربية، ولكن كان بامكانها ان تكون مكانا “لهيئة امم اسيويا”. فتحويل العاصمة الى بغداد مع كل العدة السياسية والعسكرية، كانت تهدف لمنع اية محاولات للتمرد والثورة من العناصر الغير عربية، ولارضاء شعبا كان حتى ذلك الوقت مسيطرا عليه من قبل الامويين.

واصبحت” مدينة السلام” رمز السلالة الجديدة، حل مكان التوسع الديني، هم الاستقرار والتنظيم والادارة الداخلية لامبراطورية عالمية. فتصبح بغداد مدينة ادارة، وموظفين، وتجار وعلماء حلوا مكان “غزاة العالم”.

ب) المميزات الدينية للخلافة العباسية

السلطة الدينية للخليفة

في امبراطورية اختف فيها التناسق الجنسي (العنصري)، اصبح الدين العامل الوحيد للوحدة، وكذلك سلطة الامير لم يعد بالامكان الحفاظ عليها الا بتسليط الضوء على الصفة الدينية لمركزه؛ في البداية مجرد زعيم كبير يحكم بمساعدة الارستقراطية العربية، اصبح الخليفة الحاكم الاوحد الذي يستمد سلطته من الله، كما وشددت الاشارة الى قرابته مع عائلة الرسول، وسيتم احاطته بابهة تليق بملك الملوك الفرس. فاصبح “امير المؤمنين” حاكما مطلقا، اعلى من البشر، محميا من التنديس بكثير من الطقوس والترتيبات الخارجية.

صحيح ان الامويين كانوا ايضا حكاما مطلقين في ادارتهم، ولكنهم كانوا يظهرون ديمقراطيين في معاملتهم. ففي عاصمتهم دمشق، كان بالامكان الالتقاء بهم ومشاهدتهم كثير من المرات في الشوارع، وكان من يرغب، يمكنه ان يحصل على موعد مع الخليفة. ولكن العباسيون الديمقراطيون في مبادىء حكمهم، كانوا ارستقراطيين في علاقتهم مع اتباعهم. فبجانب مساواة اساسية لكل الناس في الامبراطورية، كان هناك اتجاها يشدد اكثر فاكثر على تقديس الخليفة وابقائه بعيدا عن الناس للحفاظ على سلطته.

هذه الصفة الالهية للخليفة، ادت الى نشوب مشاكل في حالة خلافته. ولما كان مبدأ التبني، المعمول به في الامبراطورية الرومانية، لم يكن مقبولا في الاسلام، ولم يكن هناك من قوانين واضحة حول مبدأ الوراثة، فتعين خليفة جديد كان دائما من اللحظات الحرجة في حكم الخليفة وسببا للكثير من المؤامرات والدسائس الدموية.

مبدأ السلطة الشبه الهية هذا ادي من جهة الى ان لا يكون هناك أي سلطة خارج سلطة الخليفة، ومن جهة ثانية جعلت اتصال الخليفة بالشعب لا يتم الا من خلال وسيط ثقة؛ ومن هنا جاء دور وظيفة القاضي، والوزير، والامير. ومع ذلك لم يتغير مبدأ ان الخليفة هو الذي يحكم: فهو الذي يعيين او يقبل الموظفين، ويقود الحروب، ويتصرف بحياة او حرية الاخرين، ومرجعه الوحيد هو القرآن. فاذا ما تعدى نظم القرآن والسنة، فاجماع الامة يمكن ان يطرده او يقتله، مما كان يؤدي الى موت الكثير من الخلفاء قتلى.

التوجهات الدينية للامبراطورية العباسية

كانت الحدود بين الارثوذكسية والهرطقة في الاسلام غير واضحة المعالم في القرون الاولى للاسلام، ولم يكن الموضوع لدين ذو عقائد محددة، واختصاصيين لتوضيح الحدود. وخصوصا في الامبراطورية العباسية المؤلفة من عناصر مختلفة جدا، كان هاك تذبذب على المستوى الديني، بين التوجهات المتشددة وبين التوجهات المتسامحة. سنرى لاحقا، وعند دراسة كل كاتب، ما هي المواقف او الاتجاهات التي اتخذها الخلفاء من المنصور وحتى المؤمون، تجاه الاتجاهات الدينية المختلفة داخل وخارج الاسلام.

كان هناك في داخل الاسلام جدالا دائما بين الارثوذكسية السنية من جهة والحركات الشيعة العلوية وتيارات المعتزلة، وبعض الاوساط الثقافية من جهة اخرى. وفي خارج الاسلام، كان موضع “اهل الذمة” واضطهاد الزنادقة. وكان حكم العباسيين بالواقع فترة من الاستقرار، سيتيح للاسلام وقتا للتفكير العميق في عقيدته. واستقبل الخلفاء برضى عمل تنظيم القانون الاسلامي (الشريعة) من قبل قانونيين مشهورين مثل ابن حنيفة والبخاري.

هذا التوجه نحو البحث سمح، بنوع عام، تواصلا وتعايشا سلميا بين المسلمين وغير المسلمين، وخلق، في داخل الاسلام، جوا من الحرية، عملت على ان تشهد هذه الفترة ولادة حركات دينية مختلفة، تتراوح بين لاهوت ارثوذكسي وحتى حركات التصوف، مثل الدارويش.

اهمية العنصر الاجنبي

كان العباسيون قد استولوا على الحكم بفضل عدم رضى المرتدون الجدد، وبمساعدتهم سوف يحكمون. فنقل العاصمة نحو الشرق كان اقرار بالجميل لهذه الحالة. ومنذ البدء، سوف يحتل المرتدون الفرس والسريان، ومعهم غير المرتدين “اهل الذمة” مكاتب الوزارات. كانوا وحدهم المتعلمين. وبمساعدتهم بالخصوص سوف تتطور الادارة العباسية، بديوانتها وضرائبها وتنظيم ماليتها. سنتكلم عن ذلك عندما نرى مكانة الموظفين المسيحيين في الادارة العباسية. نكتفي الان بالقول ان هذه الفترة تميزت بكون الجندي العربي بدأ يحل مكانه المدير وصاحب العمل والتاجر والانسان المتعلم. وانه حتى داخل الجيش اخذ العنصر العربي يفقد تدريجيا من اهميته. فالنواة الاولى للجيش العباسي كانت مؤلفة من اهل خرسان، ومن ثم، تحت خلافة المتوكل (847-861)، بدأت تتغلغل المرتزقة الاتراك الذين سيصبحون العنصر الرئيسي للجيش وبالتالي المصدر الرئيسي للسلطة السياسية. 

في كل مكان اعطت العناصر الفارسية والارامية حماسا جديدا للاسلام، والفوا داخل المجتمع العباسي طبقة الغت او محت اهميتها الصراعات البدوية القديمة. واثناء اجمل سنوات الخلافة العباسية من المنصور الى هارون الرشيد، كانت الحكومة بالواقع في ايدي عائلة ووزراء، من مدينة المروة Merw، يعودون باصولهم الدينية الى البوذية، وهم البرامكة. وكان لخالد البرمكي دورا مهما في جيش ابو مسلم، وتسلم بعد ذلك مراكز عالية تحت الخلافاء الثلاث الاولين للعباسيين. ويحيي ابن خالد البرمكي، كان معلما لهرون الرشيد، وكّل اليه لاحقا مسؤولية كل الحكومة، والتي سيتقاسمها مع ابنه فاضل البرمكي. وكان ابنه الاخر جعفر الرفيق غير المنفصل عن هارون الرشيد حتى موته بشكل غامض سنة 802، وتسميم ابيه واخيه.

بالرغم مما اصاب البرامكة الا ان استيعاب العنصر الاجنبي اصبح بلا رجعة. والعبور نحو البيروقراطية الفارسية كسر سلطة الارستقراطية العربية، لدرجة ان، احد الخلفاء قال: “لقد حكم الفرس مدة الف عام دون الحاجة الينا (العرب) ولا حتى ليوم واحد؛ ونحن (العرب) حكمنا فترة قرنين ولكن دون الاستغناء عنهم ولو لساعة واحدة”.

تجارة وثقافة

تسلم العباسيون السلطة، ونقل العاصمة الى بغداد، تبعه ازدهار اقتصادي وتطور لشبكة واسعة من العلاقات التجارية في الداخل كما في الخارج. وكانت الطرق الكبيرة من الشرق الاقصى واسيا الوسطى، تمر سواء على الارض او في البحر من خلال الخليج الفارسي (العربي) لتصل الى البصرة وبغداد.
وصاحب التقدم التجاري نتائج اجتماعية مهمة. فالمدينة الاسلامية التي كانت دائما عبارة عن محميات جيش، تحولت الى سوق للتبادل التجاري ومن ثم الى مراكز مدينة عامرة وزاهرة.

كثير من العلماء والتجار جُذبوا بابهة وشرف البلاط العباسي. وازدهرت فيها الحياة الثقافية، بينما ضعفت في سوريا ومصر.

حافظت القسطنطينية، ولو بالظاهر، “كعاصمة الحضارة”، ولكن بالواقع فان المجتمع الاسلامي الجديد الذي قام بحركة ثقافية وعلمية مدهشة، والذي سينقذ “كنز الحضارة” اليونانية الذي أُهمل ودفن في مكتبات الغرب.

خاتمة

بدلا من ان نعطي هنا تقريرا تاريخيا وكاملا عن الاحداث التاريخية التي رافقت تأسيس الخلافة العباسية، فقد ذكرنا بعض المميزات لهذا الحكم العباسي، والذي كان من الضروري وضعه في اطاره، وذلك لفهم افضل لوضع المسيجيين. ورأينا كيف ان تغيير السلالة ونقل العاصمة هي اكثر من ضربة حظ او نتيجة غير منتظرة لتطورات الامور، انما كان نتيجة اختيار بعد تفكير لانفتاح اكثر نحو الشرق. وبالتالي نحو استيعاب العناصر المسلمة غير العربية، والذي سيستفيد منه بنفس الوقت الذميين – ومن بينهم بالخصوص المسيحيين.

عنصر اخر مهم رأيناه، وهو ان زمن الاحتلال انتهى وان المحتلين بدأوا الاستقرار. هذا التوجه هو اساسي وتم على جميع الاصعدة؛ واصبح للادارة مكانا هاما ومعه عمل الموظفين، الذين كان يتم توظيفهم من بين غير العرب؛ ومن ثم اهمية التفكير حول ارث الرسول محمد، وكتابة احداثه. بالمختصر استقرار ديني بنوع عام منفتحا، سيستفيد منه غير المسلمين، وخصوصا الطائفة النسطورية.

عندما استولت السلالة العباسية على السلطة كانت هذه الطائفة قد اصبح لها تاريخا طويلا، سنراه في فصل لاحق.

ان مجيء السلالة العباسية، ونقل عاصمتها الى بغداد، يدخل في فترة عهد جديد للكنيسة النسطورية. فالى اعضاء هذه الطائفة سيتوجه الامراء المسلمون لمساعدتهم في الادارة وتنظيم المالية لامبراطوريتهم؛ والى النساطرة سيعود الفضل في السماح للعرب للانفتاح على الفلسفة وعلوم الغرب. بداية هذا التعاون كان مؤلما، فالخليفة المنصور الذي وجد الكرسي البطريركي النسطوري واقعا تحت صراعات عدة مرشحين: بين سورين Surin ويعقوب عام 754، بدأ بوضع يعقوب في السجن، الى ان استطاعت الطائفة النسطورية، بعد تردد، انتخاب طيموتاوس الاول، على رأس الكنيسة النسطورية، فوجد المسيحيون حظوة عند معلميهم العباسيين.

4) وضع المسيحيين تحت سلطة الخلافاء العباسيين الاوائل

على اثر فتوحات وتوسعات باهرة وواسعة، ابعد مما كان يتصور العرب انفسهم، احتل الاسلام القسم الاكبر من العالم الشرقي، فواجه مشكلة السكان المحليين، الذين في كثير من البلاد استقلبوا العرب كمحررين، والذين وجدوا انفسهم امام خيار لا بد منه بين الانضمام الى الدين الجديد، او الموت بحد السيف، او قبول وضع “اهل الذمة”، التي يؤمن له “الحرية الدينية” والحماية، مقابل بعض الشروط والواجبات المحددة.

لكي نفهم وضع “اهل الذمة” وخصوصا وضع الطائفة النسطورية، تحت بطريركية طيموتاوس الاول، من المهم ان نلقي نظرة على الحياة اليومية للسكان الغير مسلمين. كذلك سنتكلم عن الضرائب التي اصبح على اهل الذمة دفعها، والعلامات المميزة التي عليهم حملها، وتختتم ببعض الملاجظات حول التعايش السلمي النسبي بين مختلف عناصر هذه الشعوب، في فترة الخلافاء الامويين ثم العباسيين الاوائل، في الوقت الذي كان فيه طيموتاوس الاول رئيسا لطائفته النسطورية الاكثر تأثيرا في “اهل الذمة”.

اتفاقات الحماية واحترام اهل الذمة

في الوقت الذي اكتشف فيه الراهب حبيب، من بيت الحكمة، نص اتفاق الذي تم عام 10 هجريا 631 ميلاديا بين محمد ومسيحيي نجران، كانت فترة فيها كان المسيحيون يتبأوون مراكزا، كان يسهل فيه على كُتابهم الحصول بسهولة على بعض التخفيفات في وضع ابناء طوائفهم، اذا ما قدموها وكأنها حصلت على عهد النبي محمد وخلافائه المباشرين “الخلفاء الراشدين”.

بيّن ماسنيون Massignon بوضوح ان بنود هذه الاتفاقية او العهدة المشهورة، تحتوي على مجموعة من الاجراءات السياسية المحددة التي تظهر ان يد رجل دولة مسيحي في البلاط العباسي قد كتبها. نقرأ فيها ان الدولة الاسلامية لن تعزل الاساقفة، ولن تهدم الكنائس، وستسمح ببناء ما تهدم منها، مقابل ضريبة تعادل ما بين 12 و 4 دراهم…، وفي حالة الحرب يُعفى المسيحيون من الخدمة العسكرية كمحاربين او جواسييس، ولن يُلزموا بتجهيز الجيوش، ما عدا ايوائهم لمدة ثلاثة ايام وثلاث ليال. والاحكام القانونية ضدهم تخفض، والنساء المسيحيات لن يتعرضن للخطف ولا للارتداد الى الاسلام.

كل هذه الاجراءات لا يمكن ان تكون الا نتيجة تعايش سنوات طويلة، ويجب فهمها من خلال المركز المهم الذي احتله المسيحيون في الامبراطورية العباسية. نجد نفس الظاهرة في جمع “الحديث النبوي” الذي يعود بوضعه الحالي الى “صحيح البخاري” (810-870)، في عهد الخلافاء العباسيين الاوائل؛ كما ونجده ايضا فيما يخص مجموع الوثائق التي نملكها بخصوص وضع المسيحيين في البلاد الاسلامية.

برهان اخر على ان هذه القوانين لم تر النور الا في فترة “استقرار” sedentarisation، الدين والمجتمع الاسلاميين، أي في بداية الامبراطورية العباسية، وان المؤلفات الثلاث التي نملكها حول موضوع الضرائب والاحوال الشخصية لاهل الذمة كُتبت في اواخر القرن الثامن وبداية القرن التاسع، أي في زمن البطريرك طيموتاوس الاول. كان ابو يوسف قاضيا تحت حكم هارون الرشيد (731-798)؛ ويحي بن ادم كان مديرا administrateur في الكوفة بعده بعدة سنوات (757-818)، وخذامة بن جعفر Kudama، سكرتيرا تحت ولاية المكتفي والمقتدر بعد ذلك بقرن. الثلاث هؤلاء كتبوا كتاب “Kitab a—Harag””، وفيه جمعوا كل الاحاديث او التقاليد المختلفة فيما يخص موقف المسلمين ورؤسائهم اثناء الاحتلال، تجاه اهل الذمة والشروط التي فرضوها عليهم. وكان همّ الكتّاب الثلاثة، ليس الامانة للتاريخ الماضي، وانما لتأسيس وضع اهل الذمة في فترة العباسيين على تقليد يعود الى “ابائهم في الايمان”، الضمان الاكيد للارثوذكسية.

فالموقف الذي اتخذه النبي محمد ورفقائه الاولون، اصبح قانونا في عصر العباسيين؛ ويجب ان لا ننسى ان الامثال التي ذُكرت تم تأريخها لسابق عهدها ليكن لها سلطة اكبر.

اما فيما يخص الاحترام لاهل الذمة حسب تقليد الخلفاء الراشدين، فيظهر ان النبي قال “من ظلم مُعاهدا او انتفضه او كلفه فوق طاقته، اذا اخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حَجِِيجَه يوم القيامة” (Abu Yusuf, Kitab al-Harag 71/trad. E, Fagnan, 191). اما خليفته ابو بكر، فقد توجه الى جيشه بقوله، حسب شهادة مصدر مسيحي، وضع في فترة العباسيين:

“Quand tu entreras dans ce pays (= la Syrie), tu ne tueras pas de personne âgée, ni d’enfant, ni de femme. Tu ne feras descendre aucun stylite de sa colonne. Tu n’injurieras pas les moines, parce qu’ils se sont mis à part pour adorer Dieu. N’abats aucun arbre et ne déracine pas de plantes ; n’éventre ni bœuf, ni vache, ni moutons. Si une province ou un peuple vous rçoit, fais un accord avec eux et tiens ta promesse. Laisse-les êtres gouvernés par leurs propres lois et leurs coutumes établies et prends d’eux l’impôt au sujet duquel vous vous êtes mis d’accord. Laisse-les dans leur religion et dans leur pays » (Chabot, Chron. Anonymum, 240/188).

كما نجد عند الكاتب توماس دي ماركا Thomas de Marga وصفا للوضع السلمي. ولكن ما يهمنا في هذه الشهادة هو حول موقف المسيحيين المعاصرين للخليفة المأمون_ عدة سنوات بعد بطريركية طيماتاوس الاول – وهو موقف الكاثوليكوس يوشعاب الثالث (647-657) في الاحتلال العربي:

“ان العرب الذين عهد اليهم الله ان يسودوا العالم، تصرفوا تجاهنا كما تعلم. فهم ليسوا بمعادين للمسيحية، بل انهم يمدحون ديننا، ويكرموا الكهنة والقديسيين ويساعدوا الكنائس والاديرة” (H.M., t. II, 156…)

ضرائب وعلامات مميزة

الاحترام الذي عُملوا به اهل الذمة، والمشهود له من قبل المسلمين والمسيحيين على السواء، لم يكن مجانا، وانما مرهون بالأمانة والثقة التي فيها كان المسيحيون يتقيدون بالاوامر او القوانين فيما يخص الضرائب وبعض الواجبات الاخرى.

(1) الضرائب

كان من حق اهل الذمة حماية الدولة لهم واعفائهم من الخدمة العسكرية، شريطة ان يدفعوا ضريبة مزدوجة. ضريبة تُدعى “الجزية”، والى هذه الجزية يضاف ضريبة اخرى على الاراضي “الخراج”، وهي مطلوبة من المسلم المرتد ومن اهل الذمة. ما يهمنا من امر الضرائب، ليس معرفة انواعها المختلفة ولا قيمتها، او طريقة تحصيلها، وانما معرفة بعض المعلومات عن الاشخاص الذين عليهم دفعها.

موقف قبيلة بني تغلب

بنو تغلب، فخرون بنسبهم ودمهم العربي، كانوا مستعدين ان يدفعوا ضعف الخراج، ولكنهم رفضوا دفع الجزية، علامة الاذلال، مع بقائهم مسيحيين. بعد رفض اولي، كان سيكون من نتائجه ان يعبر بنو تغلب نهر الفرات، وينضموا الى البيزنطيين – وقّع عمر بن الخطاب معهم معاهدة سلام تحت شرطيين: بان يدفعوا ضربتين صدقة للفقراء، وان لا يعمدوا اولادهم، وان لا يمنعوا احد من الارتداد الى الاسلام. من المعتقد ان شرط عدم تعميد الاولاد لم يتم مراعاته بشدة، لان علي بن ابي طالب قال فيما بعد: “لو كان يعود اليّ الحكم في قضية بني تغلب، لكنت قتلت محاربيهم، واخذت اطفالهم رهينة؛ لانه بتعميدهم اطفالهم، خرقوا المعاهدة وفقدوا حقهم بالحماية”. 

هذه الحادثة تظهر الى أي مدى ذهب التسامح مع اهل الذمة، وتعلمنا ان خرق المعاهدة يعني الحرمان من حق الحماية.

هل كان هناك من اعفاء من هذه القاعدة، أي دفع الجزية؟ وهل كان الرجال الراشدين “كل من يحق ذقنه، عليهم دفع الجزية؟ هل الاديرة والرهبان كانت ملزمة بدفع الجزية في عهد طيماوثاوس الاول؟

خزامة بن جعفر يعفي الرهبان بمعية العميان والعرجان: “فقد من هم قادرون على القتال، يجب قتالهم، فالرجال المعوقون كالعميان والعرجان والرهبان ومن مثلهم – غير قادرين على القتال – معفيون من دفع الجزية” ( 43).

لا يقبل ابو يوسف هذه القاعدة بشكل عام، ويوضح ان المشلول، والمريض المدنف والاعمى الاغنياء غير معفيين؛ وكذلك الرهبان الذين يعيشون في الاديرة وفي بحبوحة، ولكن ليس من يعيشون من الصدقات (ابو يوسف 60/188).

استطاع البطريرك ثيموتاوس الاول، بينما كان لا يزال اسقف مدينة بيت باغاس، ربط روابط صداقة مع والي الموصل موسى ابن مصعب، الذي عفاه من دفع الضرائب، ربما بتدخل من سكرتير الوالي ابو نوح الانباري.

روايات هذه الاعفاءات والامتيازات تظهر بانه عادة كانت الاديرة والكنائس خاضعة لدفع الضرائب.

واجبات اخرى وعلامات تمييز

كانت الضرائب التي فرضها الاسياد المسلمون على اهل الذمة تكون ربما النقظة الاكثر حساسية والاكثر متابعة ومراقبة، ولكنها لم تكن تكون الحمل الوحيد الذي فرض علبهم. فتحت مظهر نوعامن الحرية الدينية، اختبأت مجموعة من الاجراءات التمييزية، شكلت الحياة الاجتماعية وشددت الفصل بين “المؤمينين” و”الكفار”.

اذا ما اوردنا بعض هذه الاجراءات، ليس الغرض منها عمل دراسة عميقة عن وضع اهل الذمة في فترة الخلفاء العباسيين الاولين، وانما لنفهم كيف ان رجال الدين، وخصوصا البطريرك ثيموتاوس، اضطروا الطفاح للحصول على تصاريح لبناء بعض الكنائس، او تصليح ما تهدم منها. 

يورد الماوردي بعض هذه الاجراءات:

“اما واجبات اهل الذمة فهي كثيرة ومتعددة منها واجبات مالية كالجزية والخراج وضرائب التجارة، ومنها واجبات وشروط تهدف الى الحفاظ على مشاعر المسلمين ومراعاة هيبة الدولة، من ذلك مثلا: التزام اهل الذمة بعدم ذكر ما فيه اساءة للمسلمين كالطعن في القرآن الكريم او اتهام الرسول بالكذب او الحديث عنه بازدراء (الماوردي “الاخبار اتلسلطانية” ص. 184، ابن قتامة “المغنى” ج8، ص 532)،

ومن ذلك ايضا عدم المجاهرة بشرب الخمر او اكل لحم الخنزير (الماوردي – الاحكام السلطانية” ص. 185، ابن عقيل “الفنون” ج1، ص 59)

او اظهار امور دينهم بين المسلمين، فلا يحق لهم اظهار الشرك كما لا يحق لهم ان يظهروا صليبا او يضربوا ناقوسا الا اذا كان ضربا خفيفا داخل كنائسهم، واذا ساروا بجنازاتهم في اسواق المسلمين فعليهم ان لا يرفعوا اصواتهم وان لا يظهروا معها النيران وانلا يجاهروا بندب او نياحة (الماوردي “الاحكام السلطانية، ص. 185، ابن عقيل “الفنون” ج1 ص 59-60، ابن عساكر “تاريخ دمشق، ج2، ص 120-121، ص 174-179، ابن قتامة “المغني، ج8، ص 524-525).

ويُذكر هنا ان اهل الذمة كانوا احيانا يخالفون هذه الشروط مما كان يثير الاحتجاج لدى عامة الناس، وكان هذا الاحتجاج يتطور في بعض الاحيان الى فتنة عظيمة بين عامة المسلمين وبين اهل الذمة، ففي عام (403هـ / 1012 م) على سبيل المثال وقعت فتنة عظيمة في بغداد سببها خروج جنازة امرأة نصرانية نهارا ومعها النوائح والطبول والزمور والرهبان والشموع مما ادي الى جرح مشاعر بعض العامة، فقام احدهم برجم الجنازة ولعنها، واجتمع الناس وقامت فتنة عظيمة نهب فيهاالعامة البيعة واكثر دور النصارى المجاورة لها، واغلقت الاسواق والجوامع ولم تهدأ الفتنة الا بعد اجراءات قامت بها الدولة ضد النصارى ومنعا الزامهم بالغيار (سبط بن الجوزي – “مرأة الزمان” (345-447هـ( ص, 288-289).

وهناك مجموعة من الواجبات هدفها تحقيق امن المسلمين وحمايتهم من الضرر، من ذلك ان لا يتعرض اهل الذمة لمسلم في ماله ولا دمه، وان لا يعينوا اهل الخرب وان لا يؤووا لهم جاسوسا (الماوردي “الاحكام السلطانية، ص 184-185، ابن قدامة “المغتي، ج8، ص 524) وان لا يكتموا غشا للمسلمين وان لا يحملوا السلاح وان لا يتقلدوا السيوف (ابن قدامة “المغني” ج. 8 ً 524). ومن ذلك ان لا يرفعوا منازلهم اعلى من منازل المسلمين حتى لا يشرفوا على منازل المسلمين، واذا حدث وان تملك ذكي بيتا وكان اعلى من بيوت المسلمين النحيطو به فملكه صحيح ولكنه يمنع من الاشراف على بيوت المسلمين (الماوردي “الاحكام السلطانية، ص 184، 336، ابن قدامة “المغنى” ج8 ص 524-533)، وعلى اهل الذمة توقير المسلمين في مجالسهم وان لا يمنعوا احدا من ابنائهم او اقاربهم من دخول الاسلام اذا اراد ذلك (ابن قدامة “المغني” ج8 ص 524).

وهناك مجموعة من الواجبات يؤدي الالتزام بها الى تمييز اهل الذمة عن المسلمين وهي ما يسمى بالالتزام بالغيار. ويُذكر هنا ان الفقهاء اوجبوا على اهل الذمة الالتزام بهذه الواجبات في فترات سابقة لفترة الدراسة، فقد ذكرها ابو بكر الخلال (ت 311هـ/ 923م) (الخلال “احكام اهل الملل، ص 357-359)، وعنه نقلها ابن قدامة (ابن قدامة “المغنى” د8، ص 524). ويذكر البيهقي سبب تأكيد الفقهاء على ضرورة التمييز بين اهل الذمة وبين المسلمين، فبعد ان يورد عن الرسول مجموعة احاديث تبين كيفية التعامل بين المسلمين وبين اهل الذمة يقول: وحتى يتمكن المسلمون من تطبيق هذه الاحاديث لا بد من تمييز اهل الذمة عن المسلمين، ولهذا يجب عليهم التزام الغيار (البيهقي “السنن الكبرى” ج 9 ، ص 202-203). ويكون الغيار بتمييز اهل الذمة عن المسلمين في اربعة اشياء: لباسهم وشعرهم وركوبهم وكناهم، فيجب عليهم ان يلبسوا ثوبا يخالف لونه لون سائر الثياب، فعادة اليهود لبس العسلي وعادة النصارى لبس الادكن، يضاف الى ذلك شد الزنار فوق الثوب. وان لبس الذمي القلنسوة ميزها عن قلانس المسلمين بشد الخرق في اطرافها، واذا دخل الحمام جعل في رقبته طوقا من نحاس او حديد، وتتميز نساؤهم في خفيها بان تلبس احد الخفين اسود والاخر ابيض او احمر، وعليهم ان يجزوا شعورهم ولا يفرقوا نواصيهم، وليس لهم ان يركبوا الخيل ولهم ركوب ما سواها، ولا يركبون السروج بل يركبون عرضا بان تكون رجلاه الى جانب وظهره الى اخر، وليس لهم ان يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وابي عبدالله وابي محمد وابي بكر وابي الحسن وما شابهها، ولا يمنعون من الكني بالكلية (الخلال “احكام اهل الملل، ص. 358، ابن عساكر “تاريخ دمشق، ج2، ص 121، 174-175، 177-179، البيهقي “السنن الكبرى، ج9، ص 202، ابن قدامة “المغنى، ج8، ص 524-525، الكلوذاتي “الهداية، ص 126، الشيزري “نهاية الرتبة” ص. 106).

ويذكر هنا ان الماوردي جعل الغيار من الشروط المستحبة على اهل الذمة وليس من الشروط المستحقة بمعنى انها لا تجب على اهل الذمة الا اذا اشترط الامام عليهم ذاك” (المارودي “الاحكام السلطانية” ص 184-185).

تنصيب رؤساء اهل الذمة

كان لطوائف اهل الذمة رؤساء يتولون شؤون طوائفهم وخاصة الشؤون الدينية، وكانت الدولة تعترف بهولاء الرؤساء، وكانت تصدر العهود والتواقيع لتوليتهم، وكان تنصيب هؤلاء الرؤساء يتم في مراسم احتفالية خاصة تشارك الدولة في جزء من هذه المراسيم.

بالنسبة للنصارى فقط كان يعيش في العراق نصارى من الطوائف الثلاث: النسطورية واليعقوبية والملكانية، وتصرح عهود التولية التي كان الخلفاء يصدرونها للجثالقة بذلك، وتنص على رئاسة الجاثليق على هذه الطوائف الثلاث (انظر نص هذه العهود في :امين الدولة “رسائل” ص 227، ماري “اخبار فطاركة، ص 135، 149، ابن حمدون “التذكرة الحمدونية، ج3، ص 327، القلشندي “صبح الاعشى، ج10، ص 307، ، القلقشندي “مأثر الاناقة، ج3، ص 206). وكانت النسطورية تشكل غالبية نصارى العراق.

يلاحظ ان النصارى بخلافاتهم جرّوا السلطة الى التدخل لمصلحة الفريق المتنفذ منهم، ولم يتمكن الآباء من الوقوف في وجه المتنمفذين ومنعهم من فرض الجائثليق الذي يريدون.

وكانت الدولة تمارس دورا في تنصيب الجثالقة وذلك من خلال خروج التوقيع او الأذن من الخليفة يسمح بتنصيب الشخص المختار، وصدور عهد تولية للجاثليق. 

باختصار

خف في المرحلة الاولى للحكم العباسي اضطهاد المسيحيين الذي كان قد استشرى في سنوات حكم الامويين الاخيرة، وتحسنت بشكل عام اوضاعهم مع تولي السفاح اول الخلفاء العباسيين الحكم. وعظم قدرهم وأسندت اليهم مهمام موضوعية في الحياة الاجتماعية والعلمية للخلافة العباسية، بما في ذلك تعيين الجاثليق النسطوري ممثلا مدنيا عن المسيحيين اضافة لمركزه الديني. اشتهر في هذه الحقبة اسقف حران، ثيودورس ابو قرة، الذي شارك في الحوار مع العلماء المسلمين في البلاط العباسي والذي من خلال اعماله واعمال تلاميذه، اصبحت اللغة العربية لغة اللاهوت المسيحي وغدت بهذا اداة للتعبير عن ديانتين، الاسلامية والمسيحية. اما الخليفة المنصور فقد منع اظهار الصليب واجبر المسيحيين على التزيي بزي خاص وعليه اشارة تميزهم. وأمر بوشمهم فسميت تلك :سنة الميسم”، هربت على اثرها اعداد كبيرة من المسيحيين لجزيرة قبرص.

اما الخليفة هارون الرشيد، فرغم انه كان متشددا ودمر كنائس قائمة على حدود الدولة البيزنطية وصرف مسيحيين عن اعمالهم واجبرهم على التزيي بزي خاص بهم عندما ساءت علاقاته مع البيزنطيين. الا انه انشأ مراكز للحجاج المسيحيين بهدف تشجيع الحج المسيحي للاراصي المقدسة، ومنح المسيحيين حق الاشراف على الاماكن المقدسة، واقام علاقات وثيقة مع الملك شارلمان اكبر حكام اوروبا في تلك الفترة، وتبادل معه البعثات والهدايا.

كان المتوكل اشد الخلفاء العباسيين وطأة على المسيحيين فأمر ان يضعوا على ابواب بيوتهم صور شباطين، وان يقتصر ركوبهم على البغال والحمير، اضافة الى اجبارهم التزيي بازياء خاصة بهم.