رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي الثاني والخمسين للصلاة من اجل الدعوات
البابا فرنسيس: الخروج، خبرة الدعوة الأساسيّة
موقع زينيت – أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، يقدم لنا الأحد الرابع بعد الفصح أيقونة الراعي الصالح الذي يعرف خرافه، يدعوها، يغذيها ويقودها. في هذا الأحد ومنذ أكثر من خمسين عامًا نعيش اليوم العالمي للصلاة من أجل الدعوات. وفي كلّ مرة يذكّرنا بأهمية الصلاة لكي، وكما قال يسوع لتلاميذه، “يرسل رب الحصاد عملة إلى حصاده” (لوقا 10، 2). يعبّر يسوع عن وصيّته هذه في إطار إرسال رسولي: لقد دعا، بالإضافة إلى الإثني عشر رسولاً، اثنين وسبعين تلميذًا وأرسلهم اثنين اثنين إلى الرسالة (لوقا 10، 1- 16). في الواقع، إن الكنيسة “في طبيعتها رسوليّة” (المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار في نشاط الكنيسة الإرسالي “إلى الأمم”، عدد 2)، ولا يمكن للدعوة المسيحية أن تنمو إلا داخل خبرة رسالة. وهكذا فالإصغاء إلى صوت المسيح الراعي الصالح وإتباعه، سامحين له بأن يجذبنا ويقودنا إليه مكرسين له حياتنا يعني السماح للروح القدس بأن يدخلنا في هذه الديناميكية الإرساليّة ويولّد فينا الرغبة والشجاعة الفرحة لتقدمة حياتنا وبذلها في سبيل ملكوت الله.
إن تقدمة الحياة في هذا الموقف الإرسالي ممكنة فقط إذا كنا قادرين على الخروج من ذواتنا. لذلك في هذا اليوم العالمي الثاني والخمسين للصلاة من أجل الدعوات، أريد أن أفكّر حول ذلك “الخروج” الخاص الذي هو الدعوة بذاتها، لا بل جوابنا على الدعوة التي يعطينا الله إيّاها. فعندما نسمع كلمة “خروج”، يتوجّه فكرنا فورًا إلى بدايات تاريخ الحب الرائع بين الله وشعب أبنائه، تاريخ يمرّ عبر أيام العبودية المأساوية في مصر ودعوة موسى، التحرر والمسيرة نحو أرض الميعاد. إن سفر الخروج – السفر الثاني من الكتاب المقدّس – الذي يروي هذا التاريخ، يمثّل مثلاً لتاريخ الخلاص بأسره، ولديناميكيّة الإيمان المسيحي الجوهريّة أيضًا. في الواقع إن الانتقال من عبوديّة الإنسان القديم إلى الحياة الجديدة في المسيح هو العمل الخلاصي الذي يتمّ فينا بواسطة الإيمان (أفسس 4، 22- 24). هذا الانتقال هو “خروج” حقيقيّ، إنه مسيرة النفس المسيحية والكنيسة بأسرها، التوجيه المُقرّر للحياة الموجّهة نحو الآب.
في جذور كل دعوة مسيحيّة نجد هناك هذه الحركة الأساسيّة لخبرة الإيمان: الإيمان هو ترك الذات، الخروج من رفاهيّة الأنا وتصلبها لنضع محور حياتنا في يسوع المسيح؛ أن نترك أرضنا كإبراهيم ونسير بثقة عالمين أن الله سيرينا الدرب نحو الأرض الجديدة. لا يجب فهم هذا “الخروج” كاحتقار لحياتنا وشعورنا وإنسانيّتنا وإنما على العكس، فالذي يبدأ مسيرة إتّباع المسيح يجد الحياة بوفرة، واضعًا نفسه بكليّتها في خدمة الله وملكوته. يقول يسوع: “كُلُّ مَن ترَكَ بُيوتاً أَو إِخوةً أَو أَخواتٍ أَو أَباً أَو أُمّاً أَو بَنينَ أَو حُقولاً لأَجلِ اسْمي، يَنالُ مِائةَ ضِعْفٍ ويَرِثُ الحَياةَ الأَبَدِيَّة” (متى 19، 29). وهذا كلّه يجد جذوره العميقة في الحب. في الواقع، إن الدعوة المسيحية هي قبل كلِّ شيء دعوة حبٍّ تجذب وتحملنا أبعد من ذواتنا، تُزيل مركزيّة الشخص وتدفع إلى “نزوحٍ مستمرٍ خارج الذات المنعزلةِ والمُنغلقة نحو حريّة بذل النفس، وهكذا نحو اكتشاف الذات الأصيلِ لا بل اكتشاف الله” (بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة “الله محبة”، عدد 6).
إن خبرة الخروج هي نموذج الحياة المسيحية لاسيما لِمَن يعانق دعوة تكرّس خاص لخدمة الإنجيل. إنها تكمن في موقف دائم التجدّد في التوبة والتبدّل، وفي مسيرة دائمة، وفي انتقال من الموت إلى الحياة على غرار ما نحتفل في الليتورجيا كلها: إنها الديناميكيّة الفصحيّة. في الواقع، من دعوة إبراهيم إلى دعوة موسى، ومن مسيرة حج إسرائيل في الصحراء إلى التوبة التي نادى بها الأنبياء، حتى مسيرة يسوع الإرسالية التي تبلغ ذروتها في موته وقيامته، تشكّل الدعوة على الدوام عمل الله الذي يُخرجنا من حالتنا الأولى، ويحرّرنا من كل شكل من أشكال العبودية، وينتزعنا من التعوّد واللامبالاة ويوجّهنا نحو فرح الشركة مع الله ومع الإخوة. وبالتالي، فإن الإجابة على دعوة الله هي أن ندعه يُخرجنا من استقرارنا الزائف ليضعنا في مسيرة نحو يسوع المسيح، الهدف الأول والأخير لحياتنا وسعادتنا.
إن ديناميكيّة الخروج هذه لا تتعلق بالفرد المدعوّ وحسب، إنما بالعمل الإرسالي والتبشيري للكنيسة كلها. فالكنيسة هي أمينة حقًا لمعلّمها بمقدار ما هي كنيسة “في خروج” غير منشغلة بنفسها وبنياتها الخاصة وإنجازاتها، إنما قادرة على الانطلاق والتحرك ولقاء أبناء الله في وضعهم الحقيقي ومؤاساة جراحهم. يخرج الله من ذاته في ديناميكيّة محبة ثالوثيّة، ويصغي إلى بؤس شعبه ويتدخّل ليحرّره (الخروج 3، 7). إن الكنيسة مدعوة أيضا لأن تكون وتعمل على هذا النحو: فالكنيسة التي تبشّر تخرج للقاء الإنسان، وتُعلن الكلمة المحرِّرة للإنجيل، وبنعمة الله تشفي جراح الأنفس والأجساد، وتساعد الفقراء والمعوزين.
أيها الأخوة والأخوات الأعزاء، إن هذا الخروج المحرِّر نحو المسيح والأخوة يشكل أيضا الدرب المؤدية إلى الفهم الكامل للإنسان والنمو البشري والاجتماعي في التاريخ. إن الإصغاء إلى دعوة الرب وقبولها ليسا مسألة خاصة أو حميمة قد تُعتبر وليدة مشاعر اللحظة: إنها التزام ملموس وواقعي وشامل يعانق كياننا ويضعه في خدمة بناء ملكوت الله على الأرض. لذا فإن الدعوة المسيحية المتجذّرة في التأمل بقلب الآب تدفعنا في الوقت نفسه إلى الالتزام التعاضدي تجاه تحرير الأخوة، لاسيما الأشد فقرًا. إن تلميذ يسوع يتمتع بقلب منفتح على آفاق لا حدود لها، وعلاقته الحميمة مع الرب ليست هروبا من الحياة والعالم بل على العكس إنها “تظهر بشكل أساسي كشركة إرسالية” (الإرشاد الرسولي فرح الإنجيل رقم 23)
إن ديناميكية الخروج نحو الله والإنسان تملأ الحياة فرحا ومعنى. أود أن أقول هذا بنوع خاص إلى الشبان الذين يعرفون كيف يكونوا مستعدين وأسخياء بفضل سنّهم ونظرتهم للمستقبل المفتوح أمامهم على مصراعيه. قد يأتي أحيانًا المجهول والقلق بشأن المستقبل وعدمُ اليقين المحدق بالحياة اليومية ليشلّوا هذه الانطلاقة وليكبحوا هذه الأحلام وصولا إلى حد الاعتقاد بأن الالتزام لا يستحق العناء وبأن إله الإيمان المسيحي يحد حريتهم. لكن، أيها الشبان الأعزاء، لا تخافوا من الخروج من ذواتكم والانطلاق في مسيرتكم! الإنجيل هو الكلمة التي تحرّر، وتبدّل وتجعل حياتنا أجمل. كم هو جميل أن تتركوا دعوة الله تفاجئكم، وأن تقبلوا كلمته وأن تسيروا بحياتكم على خطى يسوع في عبادة السر الإلهي وتكريس الذات للآخرين! فتصبح حياتكم كل يوم أكثر غنى وفرحًا!
إن العذراء مريم، نموذج كل دعوة، لم تخشَ من أن ترد بكلمة “فَليَكُن” على دعوة الرب. إنها ترافقنا وتقودنا. بشجاعة الإيمان السخية أنشدت مريم فرح الخروج من ذاتها وإيكال مشروع حياتها لله. إننا نتوجه إليها لنكون مستعدين تماما للمخطط الذي وضعه الله لكل واحد منا؛ كي تنمو لدينا رغبة الخروج والانطلاق نحو الآخرين باندفاع (راجع لوقا 1، 39). فلتحمنا الوالدة العذراء ولتشفع بنا جميعا.