الأب برنارد بوجّي: “أولويّتي هي فتح المعهد الإكليريكي على محيطه والانفتاح على الآخرين”

مقابلة أجراها ساهر قواس / موقع البطريركية اللاتينية www.lpj.org مع الأب الرئيس برنارد بوجّي

عقب رسامته كاهنًا عام ٢٠١٤، خدم الأب برنارد بوجي مرشدًا روحيًا للجماعة الكاثوليكية العربية-الأمريكية في كارولاينا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية مدة ٤ سنوات قبل العودة إلى الأرض المقدسة. ومنذ ذلك الحين، تقلّد الأب برنارد العديد من المهام في المعهد الإكليريكي البطريركي في بيت جالا، كان آخرها تعيينه رئيسًا للمعهد الإكليريكي. في هذه المقابلة، يتحدث الأب برنارد عن تمييز الدعوة الرهبانية، والسمات الشخصية للكهنة، والعقلية الإكليروسية، فضلًا عن أولوياته في المعهد الإكليريكي.

١. لقد خدمت في المعهد الإكليريكي في بيت جالا منذ عام ٢٠١٨. كيف تشعر الآن وقد أصبحت رئيسًا للمعهد؟

أشعر بالامتنان الشديد لله ولغبطة البطريرك. عندما دُعيت إلى المعهد الإكليريكي عام ٢٠١٨، تملكني شعور كبير بالمسؤولية. وقد كنت محظوظًا بالعمل تحت إشراف الأب يعقوب رفيدي بالتنسيق مع مجموعة رائعة من الكهنة. ومن خلال تعييني هذا، أشعر بأنني مدعو لمواصلة العمل الجيد الذي بدأ في السنوات السابقة.

حين غادرت سان فرانسيسكو عام ٢٠١٨، كنت قد خدمت مدة ٤ سنوات فقط، وقد وجدت صعوبة في أن أترك الجماعة التي أحببتها ونشأت فيها – ناهيك عن عائلتي. ولكن لدى عودتي إلى الأرض المقدسة، وجدت عزاءً كبيرًا في وجودي مع طلاب المعهد الإكليريكي وفي العلاقات التي طوّرتها مع إخوتي الكهنة. وفي ضوء ذلك، لا أعتمد على جهودي الضعيفة وإنما على دعم الكهنة، أولئك الذين ينتمون إلى بطريركيتنا الحبيبة، ولا سيما الذين هم معي في المعهد، الأب بطرس والأب طوني والأب خالد. ولا يمكنني أن أنسى التعاون الكبير لجميع طلبة المعهد الإكليريكي والراهبات والمربّين والموظفين الذين يجعلون عمل المعهد ممكنًا.

٢. هل بإمكانك الحديث عن تمييز الدعوة الرهبانية؟ ما الذي يلزم طلبة المعهد الإكليريكي خلال فترة التنشئة الكهنوتية؟

يتحدث القديس أغناطيوس من لويولا عن الدعوة الرهبانية، ولا سيما تلك المتعلقة بالتنشئة الكهنوتية، ويقول: “يجب أن تكون رغبتنا الوحيدة وخيارنا الأول أن نريد ونختار كل ما يقودنا إلى تعميق حضور الله في حياتنا”. وفي سبيل الإجابة عن سؤال “كيف نختار أفضل ما يؤدي إلى العمل بحسب مشيئة الله؟”، علينا أن نستمع إلى ما تقوله قلوبنا. كما أن القديس أغناطيوس يريدنا أن نستمع إلى مشاعرنا. إلا أن الأمر يتجاوز مشاعرنا، فبمجرد أن يتولد لديك الشعور أو الرغبة في القيام بشيء ما، عليك أن تسأل نفسك “ماذا عليّ أن أفعل كي أحقق هذا الهدف؟”ومن ثم، “هل أمتلك الهبات والقدرات التي تؤهلني لمتابعة السير في قراري؟”.

هذا هو دورنا في المعهد الإكليريكي، فنحن نحاول مساعدة الشباب على اكتشاف ما إن كانت لديهم المواهب والقدرات اللازمة حتى يصبحوا كهنة. نحن نكرس السنة الأولى من الإكليريكية الكبرى (التي ندعوها السنة الروحية) لتعريف الطلبة الإكليريكيين بصورة كاهن الرعية، كي يروا مَنْ هو، وكيف يعيش وكيف يصلي، والتحديات والصعوبات التي يواجهها، ونوع العلاقة التي تربطه بجماعته أو رعيته. أما في المرحلة الثانية فنسأل الطالب الإكليريكي، “هل هذا ما تريده؟”، فإن كانت إجابته نعم، توجب عليه خوض ٨ سنوات إضافية من التنشئة الكهنوتية تحضيرًا لتحقيق رغبته. ولا يُطرح هذا السؤال مرة واحدة فحسب خلال السنوات الثمانية، بل يتكرر في كل يوم. وقد تحدث القديس أغناطيوس عن ذلك فقال إن على الإنسان أن يختار بين الزواج والكهنوت، وأن يستمر في التفكير بذلك حتى تتم رسامته أو زواجه، فيبدأ حينئذ بطرح سؤال “كيف يمكنني أن أجعل عملي أفضل؟”.

ويتم التمييز أيضًا بمساعدة الكهنة المنشِئين الذين يبحثون عن علامات تساعدنا على فهم ما إذا كان ما يقوله الطالب الإكليريكي موجودًا بالفعل أم لا. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع رؤية ما بداخل الإنسان، إلا أننا نستطيع أن نرى كيف يعيش يومًا بعد يوم – هل هو سعيد؟ هل يتعامل مع الحياة الجماعية بشكل جيد؟ هل يريد عيش حياة من التضحية؟ هل علاقاته صحية؟ أما الأمر الآخر فهو الثقة التي يضعها الإكليريكي في الكاهن من خلال التوجيه الروحي، فيساعده الكاهن على فهم ما يجول في خاطره من أفكار ومشاعر وعواطف ورغبات وذنوب وضعف، وما إلى ذلك، والتي يفشيها الإكليريكي كاملةً بحرية وصراحة وبطريقة سرية.

وبذلك، فإن ما يلزم الطالب الإكليريكي في تنشئته الكهنوتية هو الصدق والرغبة في التنشئة. فأن تكون صادقًا يعني الانفتاح على شخص آخر يمكنه مساعدتك على فهم ذاتك بشكل أفضل، وأن تكون مستعدًا للتنشئة يعني أن يخبرك شخص بما يجب عليك فعله وما لا ينبغي عليك فعله، ومتى تستيقظ ومتى تنام، وماذا تدرس وأين تذهب، والأهم من ذلك، كيف تعمل على تحسين بعض الصفات فيك. وأخيرًا، ينبغي وجود القدرة الفكرية على التعلم والمشاركة في الموضوعات المختلفة، فاللاهوت والفلسفة ليسا موضوعين “سهلَين”.

٣. ما هي أبرز التحديات التي يواجهها الأشخاص الذين يدخلون المعهد في سن مبكرة، والذين يلتحقون به في فترة لاحقة من حياتهم؟

دائمًا ما أتأثر بالشبان الصغار الذين يأتون إلى المعهد لأن تضحياتهم كبيرة جدًا. في عالم اليوم، لا تجد الكثير من الأشخاص الذين يمكنهم الإجابة عن سؤال “ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟”، رغم أن هذا السؤال البسيط هو بداية حياة من الالتزام. بطبيعة الحال، فإن التحديات التي يواجهها الشاب الذي يأتي إلى المعهد في سن مبكرة تشمل ترك عائلته للعيش مع أشخاص لا يعرفهم، حيث يوجد نهج حياة منضبط. ولكن الإكليريكية الصغرى هي أيضًا مكان أخويّ يغرس الكثير من القيم الجيدة في حياة الطلاب الإكليريكيين. وسواء واصلوا مسيرتهم إلى الإكليريكية الكبرى أم قرروا ترك المعهد، فإن التنشئة التي يتلقونها تبقى معهم. وإنه لمن الممتع للغاية مقابلة طلاب إكليريكيين سابقين تركوا المعهد، لمعرفة مدى التأثير الذي تركه المعهد فيهم.

أما الطلاب الإكليريكيين الذين يدخلون المعهد في فترة لاحقة من الحياة، فيواجههم نوع آخر من التحديات يتمثل أصعبها بـ”عدم امتلاك الحرية”. لا يتمثل الأمر حقًا بفقدانهم لحريتهم، ولكنهم يتبنون أسلوب حياة يختلف عمّا يفعله مَنْ يعيش خارج المعهد، فهو نمط حياة مختلف. أذكر أنني حين دخلت المعهد وجدت صعوبة في عدم وجود سيارتي معي وعدم إمكانية مغادرة المعهد حيثما وكلّما أردت ذلك. هذا ما أعنيه حين أقول أن عليك التخلي عن حريتك بمحض إرادتك. وإن فكرت في الأمر، في كل مرة يتخذ فيها الناس قرارًا بالذهاب إلى كلية ما أو الحصول على وظيفة جديدة، فإن في ذلك نوع من التضحية عليك القيام بها أيضًا. وفي النهاية، يستحق الأمر ذلك بالطبع، بل ويصبح مع الوقت نهج الحياة الطبيعي الجديد، لدرجة أنه عندما يعود طلابنا إلى المعهد بعد زيارة عائلاتهم مدة من الزمن، تسعدهم العودة إلى المعهد حيث يوجد وقت لكل شيء.

عادة ما أسمع الناس يقولون بأن الذين يدخلون المعهد في فترة لاحقة من حياتهم لديهم “دعوة حقيقية” لأن يضحون بما هو أكبر من أولئك الذين يدخلون المعهد في سن مبكرة، ولكن بحسب تجربتي، هذا ليس صحيحًا حقًا، لأن الدعوة الحقيقية تتمثل بما تكسبه، لا ما تتخلى عنه. الفكرة، كما أوضحنا سابقًا، هي إيجاد نهج للحياة يجعل الشخص أكثر اتحادًا مع الله. ويظهر ذلك في الإنجيل حين سأل القديس بطرس المسيح عمّا سيحصل عليه مقابل التخلي عن كل شيء، وكان المسيح واضحًا في إجابته إذ قال: “الحقَّ أقولُ لكُم: ما مِن أحدٍ تَرَكَ بَيتًا أو إخوَةً أو أخواتً أو أمًا أو أبًا أو بنين أو حقولًا مِن أجلي وأجلِ البِشارةِ إلا نالَ الآن في هذهِ الدنيا مائة ضعفٍ من البُيوتِ والإخوةِ والأخواتِ والأمهاتِ والبنين والحقولِ مع الاضطِهاداتِ، ونالَ في الآخرةِ الحياةَ الأبديّة” (مر ١٠: ٢٩).

٤. كيف يتعامل المعهد الإكليريكي مع الذاتيين والانبساطيين [1]عند تنشئة إكليريكيين جدد؟ هل للشخص الذاتي الذي نال دعوته مكان في الحياة الدينية؟ أم أن الكهنوت مقتصرٌ على الانبساطيين فحسب؟

يعتقد الكثيرون أن الذاتيين لا يمكنهم أن يصبحوا كهنة أبرشيات، ويفكرون بهم بشكل تقليديّ معتقدين أنهم يصلحون كرهبان مدعوين إلى الحياة الصامتة والمنعزلة. إلا أن هذا ليس صحيحًا دائمآ. صحيح أن على كاهن الرعية أن يعرف كيف يتعامل مع الناس بطريقة تبني علاقات هادفة ومستمرة، ليس بينه وبين الأشخاص الذين يخدمهم فحسب، بل أيضًا بينه وبين جماعة المؤمنين والمسيح. أعتقد أن هذا هو ما يجب أن نركز عليه حقًا، أكثر من كيفية جذب الناس إلينا بشخصيتنا الذكية والاجتماعية. علينا أن نفكر في الوسائل اللازمة لجذب الناس إلى الرغبة في تحقيق علاقة مع الله، ومعرفته واتّباعه ومحبته.

كما أننا كمنشِئين، ننظر إلى قدرة الشخص على بناء العلاقات والحفاظ عليها، سواء أكان ذلك مع أقرانهم أو أبناء الرعايا المختلفة أو الكهنة الذين يرافقونهم في مسيرتهم. ونحن نلاحظ حين لا يتمكن أحدهم من تشكيل هذه العلاقات أو تقلد أدوار قيادية، ونحاول مساعدته على التمييز فيما إذا كانت هذه السمات الشخصية تتوافق مع كهنوت الأبرشية. ليس بالأمر السيء أبدًا أن يكتشف المرء أثناء التنشئة أن الكهنوت لا يلائمه. من واجبنا أن نساعد الشخص في العثور على المكان الذي يمكن فيه استخدام قدراته لبناء ملكوت الله. فلكلّ شخص دور في ذلك، ولكن السؤال الحقيقي هو “كيف؟ وأين؟”.

٥. العقلية الإكليروسية هي مشكلة منتشرة اليوم في الأرض المقدسة. كيف ستتعامل مع هذه القضية؟ وما هو دور المعهد الإكليريكي في معالجتها؟

لقد اعتبر البابا فرنسيس موضوع العقلية الإكليروسية أحد أهم الأمور التي يريد زيادة الوعي بها. إن الأيديولوجية الشائعة في العقلية الإكليروسية هي أن الكاهن على حق دائمًا وبأنه يعيش أسلوب حياة غير متزامن مع الأشخاص الذين يخدمهم. يذكّر قداسة البابا الكهنة بأخذ رائحة الخراف، أي عيش حياة خالية من نفاق نذر الفقر والعيش كشخص غني، فيقول: “الرياء هو الخوف من الحقيقة. حيث يفضَّل التظاهر بدلًا من أن يكون الشخص ذاته”.

أما الأمر الآخر الذي قد يكون سببًا في تشكّل العقلية الإكليروسية فهو الاحترام الكبير الذي نوليه عادةً لرجال الدين أو “رجال الثوب”. نحن نعيش في زمن ينتمي فيه غالبية الناس إلى دين معين وقد أصبح جزءًا من ثقافتنا. ومن الضروري أن ينتمي المرء إلى دين، حتى لو لم يؤمن به أو يتبعه بالكامل، كي يتمكن من الزواج وإنجاب الأطفال أو حتى ليتم دفنه بعد وفاته. وفي هذا النوع من المجتمع حيث يكون الانتماء إلى الدين ضروريًا في الحياة اليومية، هناك خطر أن يصبح الكاهن فائق القوة. فإن لم يدرك الكاهن بأن هذه الفرص هي لخدمة الشعب لا للسيطرة عليه، أساء استخدام قوته.

ومن أجل نشر الوعي حول قضية العقلية الإكليروسية وتسليط الضوء على أهمية حياة الخدمة، اخترنا هذا العام شعارنا من إنجيل مرقس حيث يقول المسيح لتلاميذه: “أعطوهم أنتم ليأكلوا” (مر ١٤: ١٦). في هذا النقاش بين المسيح والتلاميذ، أراد التلاميذ إبعاد الحشد لأنهم لا يستطيعون تلبية احتياجاته من الطعام. ولكن يسوع رأى الجمع بقلب راعٍ، واعتبر جوعه مشكلته ورفض إبعاده. أعتقد أن هذا ما عناه الأب الأقدس حين قال: “لا يجب على الإكليريكية أن تبعدكم عن الواقع وعن الخطر وعن الآخرين، ولكن على العكس يجب أن تجعلكم أكثر قربًا من الله ومن الإخوة”. وتابع الحبر الأعظم: “وسّعوا بين جدران الإكليريكية حدود قلوبكم، وسّعوها إلى العالم بأسره، وتحلّوا بالشغف للأمور التي تقرّبكم وتفتحكم على الآخرين وتجعلكم تلتقون بهم”.

٦. في الوقت الحالي، ما هي أبرز أولوياتك كرئيس للمعهد؟

إن الأولوية العظمى بالنسبة لي هي، بلا شك، الطلاب الإكليريكيين، ولكن هذا يعني أيضًا أنه يتعين علينا أن نكون على دراية بنوع التنشئة التي نقدمها لهم وكيف نقوم بذلك. أعتقد بأنه بالإضافة إلى العمل عن كثب مع الإكليريكيين والكهنة، ومع الراهبات والموظفين، فإن أولويتنا هي أيضًا فتح المعهد على محيطه والانفتاح على الآخرين.

فضلًا عن ذلك، أعتقد أن رؤساء المعهد الإكليريكي قاموا بعدد كبير من المشاريع في السنوات السابقة، ونحن لدينا اليوم قائمة كبيرة بالأشياء التي لا يزال يتعين علينا القيام بها. علينا تطوير خطة لمدة ٥ أو ١٠ سنوات، والتي ستكون بمثابة خارطة طريق ترشدنا إلى المكان الذي نودّ بلوغه وكيفية تحقيق ذلك.

آمل أيضًا أن أشرك الآخرين فيما أدعوه “التعبير عن رأيك” في المعهد. أود أن يكون للكهنة والعلمانيين رأي فيما يودّون رؤيته في كاهن الغد. أحتاج إلى تعاون المهنيين الذين يمكنهم التفكير معنا فيما يتطلبه الأمر لتوفير تجربة تنشئة كاملة. آمل أن نتمكن في العام المقبل من إعادة تشغيل الإكليريكية الصغرى بعد إغلاقها مؤقتًا عقب تفشي فيروس كورونا، كما آمل أيضًا أن نبذل جهدًا كبيرًا في تشجيع الدعوات مع الأب خالد وغيره من الكهنة المستعدين للمساعدة.

وأخيرًا، أود أن أفعل شيئًا مع الإكليريكيين لمساعدة من هم أقل حظًا. أريد أن أرعى حياتهم المكرسة وحياة الصلاة خاصّتهم وأُنمّيها، كما أرغب في أن أغرس فيهم حب الأماكن المقدسة وشكر الله الذي دعاهم ليكونوا كهنة في هذه الأرض المقدسة. هناك الكثير من العمل، ولكنني أعلم بأن شعار هذا العام ليس للإكليريكيين فحسب، فهو لي أيضًا، أن أعطيهم شيئًا ليأكلوا وأحافظ على جوعهم وعطشهم لمعرفة الله ومحبة القريب. صلّوا من أجلي من فضلكم!