عظة الأحد الأول من زمن المجيء

عظة الأحد الأول من زمن المجيء، سنوات ب

أثناء زيارته الرسولية إلى الأرض المقدسة عام 2014، قال قداسة البابا “إن المجيء هو مسيرةٌ نحو بيت لحم”. وبالفعل، فالطريق إلى بيت لحم، أي الميلاد، يتضمن مسيرةً تستمرُ لمدةِ ما يقارب ال4 أسابيع. هي مسيرةُ تحولٍ وتبدُّل، بحيثُ يحلُّ السلام والعدل مكان الحرب والصراع، ويصبح اللانظام، نظام. هذا الزمن الذي يصل إلى قمته ونهايته في ملء الزمان. وبحسب النبي (أشعيا6:9)، يحدث هذا عندما يولد لنا مخلص، ونعطى ابن، فتصير الرئاسة على كتفه ويدعي أسمه عجيبا مشيرا إلها جبارا، أبا للأبد، رئيس السلام.

إنَّ هذا الميلاد ليس بالحدث التاريخيِّ فقط، والذي حصلَ قبلَ ما يزيدُ عن ألفي عام، بل هو حدثٌ ممتدٌ عبر الزمان والمكان، هوَ حدث تمَّت التهيئة له منذ اللحظة الأولى من تاريخ الخلاص. ونحن من خلال إحتفالنا به نقوم بإعادة إحياء هذا الحدث الذي حدث في الماضي. وكما كان الميلاد الأول يسبقه مسيرةٌ من التحضير، فكذلك الميلاد الذي نحتفل به في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول من كل عام.

في هذا التحضير، ومن خلال الكنيسة المقدسة والوحي الإلهي في الكتاب المقدس، يقدم لنا الله الطريقة التي علينا بها أن نتهيأ ونستعد للميلاد، وهذه الطريقة هي السهر.

إن السهر الذي يوصي به المسيح في إنجيل هذا اليوم من خلال مثلِ الرجل المسافر هو السهر الدائم، الذي يعني اليقظة الدائمة، والتي تهدف إلى الوعي الدائم والمستمر لحضور الله في حياة من يسهر، بحيث يصبح الله جرءًا من الحياة اليومية لهذا الإنسان. إن هذا النوع من السهر ليس بالأمر السهل، بل يتطلب عمل وصلاة شاقين وبلا انقطاع. فحظور الله الدائم في شتى تفاصيل الحياة يعني العيش في ملكوت الله على الأرض، فجميعنا نعلم أن الملكوت هو العيش في حضرة الله الثالوث والاتحاد به، وهو ما اختبره القديسون -ولو بشكل جزئي- اثناء حياتهم. فعلى سبيل المثال، كانت القديسة تيريزا دي كالكوتا ترى المسيح في كل فقير تقابله، أي أنها كانت تعي حظور المسيح في كل إنسان. وكمكافأة على ذلك، هي الآن تتنعم بالحياة الأبدية في الملكوت. أي أن القديس هو من يكون في حالة سهر مستمر ووعي بأن الله معه وبجانبه. وهو ما يدعونا إليه الله “كونوا قديسين كما أن أباكم قدوس”.

إن الكنيسة كانت تعي أهمية هذا السهر المستمر، فنراها تضع نصوص السهر في بداية السنة الليتورجية، في زمن المجيء، وفي الزمن الأربعيني وفي آخرها أيضاً كما رأينا في الأسابيع الماضية. بالتالي، فالسهر هو أمر أساسي وضروري في حياتنا إن أردنا القداسة والظفر بالملكوت. لكن كما قلت سابقاً، السهر واليقظة الدائمين والمستمرين هما أمران صعبان، ومن يعتزم السهر سيواجه العديد من الصعوبات، وسأذكر 3 منها:

الصعوبة الأولى، الإستسلام لملهيات هذا العالم المختلفة والعديدة، والتي يمكن الوصول لها بشكل سهل نوعاً ما، خاصةً مع التقدم التكنولوجي المتسارع، على عكس ما هو إلهي الذي يصعب الوصول إليه.

الصعوبة الثانية، الخوف من رفض العالم، أو بالأحرى، الإنفصال عن العالم عند إعلان السير في طريق تخالف إرادة العالم. التي تنجر أكثر فأكثر نحو إيديولوجيات عقيمة منبنية على ما يدعوه العالم بالحرية، والتي ستفضي بالإنسان إلى خارج الملكوت.

أما الصعوبة الثالثة وهي الأخطر، فتتمثل في نسيان الله. فإنسان اليوم، يميل إلى يمكنه السيطره عليه وما هو ملموس، والله كما نعلم لا يعمل بهذه الطريقة. بالتالي فغياب جواب الله الذي يلائم إرادة الإنسان، والإجابة التي يتوقها يمكن أن تسبب فقدان الرجاء، فالله لا يعمل كما أريد! فلماذا اعتمد عليه؟ ولماذا استسلم له وأسلمه حياتي؟ على العكس تماماً، سأعتمد على نفسي، وسأنجح بعيداً عن الله.

أمام هذه المخاطر التي تجعل سهر الإنسان لمجيء مخلصه أمر شبه مستحيل، ماذا يجب على الإنسان أن يفعل؟ إن الخطوى الأولى من الإجابة على هذا السؤال، تتمثل في ما تقدمه الكنيسة لنا من خلال القراءة الأولى، المأخوذة من سفر النبي أشعيا. فالشعب الذي أمام العديد من الصعوبات، ومن ضمنها الجلاء، كان رده الأول هو أنه شعر بأهمية مجيء مخلِّص وافتقده. فأمام مشاكل لا يستطيع حلها بالإعتماد على نفسه، لا يجد ملجأً سوى مجيءِ هذا المخلص الذي فقط هو من يملك القدرة والقوة على تخليص الشعب من كل صعوبات العالم، وحتى الصعوبات التي كان مصدرها الشعب نفسه. بالتالي، فالخطوة الأولى هي أن نعلم ونشعر بأهمية هذا المجيء الذي نسهر ونتهيّأ له. وهو ما وصل إليه القديس أوغسطينوس بعد رحلة طويلة مع الألم والصراع الداخلي، حيث يقول في كتابه الاعترافات “خلقتنا لك يا ربّ، وقلبنا لا يزال قلقًا حتّى يرتاح فيك”، أي أن القديس أوغسطينس وصل إلى اليقين بأهمية الله في حياته.

أما الخطوة الثانية للتغلب على الصعوبات في مسيرة السهر، هي كما يقول البابا الراحل بندكتوس السادس عشر في رسالته “خلِّصنا بالرجاء”، أن نعرف ونؤمن أننا محبوبون، أي وبحسب البابا يعني أن نكون مسيحيين ذوي رجاء أكيد. ومهما حدث لنا فإن المحبة تنتظرنا. فمهما اشتدت الظروف صعوبة، ومهما كان السهر في عالم اليوم صعباً، إلا أن المحبة تنتصر.

نستنتج مما سبق، أن الطريق لسهر دائم وحقيقي، يتضمن اليقين بأن مخلصنا هو لوحده قادر على أن يعطينا الخلاص، وأن نتحلى بالإيمان والرجاء والمحبة. أي أن الحل لمشكلة العالم، يأتي من الله وحده، فالرجاء والإيمان والمحبة لا يمكن أن نحصل عليها سوى من الله وبمجانية.

لكن إن كان الجواب يأتينا من الله، فلماذا لم يُجِب علينا بطريقة أخرى؟ فهو الله القادر على كل شيء، لماذا يجب أن نسهر ونتعب ونواجه العالم، لماذا لا يأتي بقوة ويجتاح العالم؟ يجيب سي أس لويس على هذا السؤال ويقول: “نعم، يؤمن المسيحيون بأنه سيهبط بقوة آخر الأمر، ولا ندري متى، لكن يمكن أن نحزر لماذا يتأنى، فهو يريد أن يتيح لنا الفرصة للانضمام له بملء حريتنا. فلو تدخل الله كما نريد، لكانت نهاية العالم قد حانت، ولن يكون هناك وقت للعودة عندها.”

وأخيراً، فإن كنا في حالة سهر مستمر، فلا يهم متى يأتي هذا السيِّد، بل سننتظره مطمئنين، وبلا خوف. فكما يقول القديس أوغسطينوس، وأختم بقوله هذا،” المسيح سوف يأتي، شئْنا أم أبَيْنا. إن لم يأتِ اليومَ فهذا لا يَعني انه لن يأتيَ بعدَ اليوم. سوف يأتي في ساعةٍ لا تعلمُها. إن كنْتَ مستعدًّا فلن يَضُرَّكَ شيءٌ إن كنْتَ لا تَعلم”.

الطالب الإكليريكي: فادي قندح
03 كانون الأول 2023

Facebook
WhatsApp
Email