عقيدة الحبل بلا دنس
حُفظت مريم من الخطيئة الأصليّة
الأب بيار نجم المريمي
إن هذه العقيدة هي مصدر سوء فهم للكثير من المسيحيّين إذ يمزجون بينها وبين عقيدة الحبل العذري لمريم بالّرب يسوع. لا يجب أن نخلط بين الحبل بلا دنس وبين بتوليّة مريم الدائمة، ما قبل وحين وما بعد الولادة. كما لا يجوز أن نفهم أن الحبل بلا دنس يعني أن العذراء قد حُبل بها دون تدخّل رجل، فمريم وُلدت من فعل حبّ مقدّس جمع والداها القدّيسين يواكيم وحنّة. ولكنّ الفرق بينها وبين كلّ إنسان آخر هو أنّها، ومنذ اللّحظة الأولى لتكوّنها في حشا والدتها، وبنعمة من الله وبافتداء مُسبق، حُفظت مريم من الخطيئة الأصليّة.
نصّ العقيدة:
في الثامن من كانون الأوّل 1854 أعلن البابا بيوس التاسع عقيدة الحبل بمريم العذراء معصومة من الخطيئة الأصليّة: (نعلن، نصرّح ونحدّد أن العقيدة التي تقول أن الطوباويّة مريم العذراء، ومنذ أول لحظة تكوّنها، وبنعمة فريدة وبامتياز خاصّ من الله الضابط الكلّ، وبتطلّع الى استحقاقات يسوع المسيح، مخلّص الجنس البشري، قد حُفظت مصانة من كلّ وصمة الخطيئة الأصليّة، هي عقيدة مُلهمة من الله ولهذا يجب أو يؤمن بها المؤمنون بثبات وباستمرار).
لنفهم هذه العقيدة دون أن نمزج بينها وبين عقيدة بتوليّة مريم الدائمة، ودون أن نقع في خطأ الإعتقاد أن الحبل بلا دنس يعني ان مريم قد وُلدت دون تدخّل رجل، لا بدّ من أن نشير، باختصار، الى ماهيّة الخطيئة الأصليّة التي تطال جنسنا البشرّي بأسره.
الخطيئة الأصليّة:
لقد خلق الله الإنسان، رجلاً وأمرأة، على صورته ومثاله خلقهما. لقد خلق الله الإنسان لتكون له ملء السعادة لكونه إنساناً وابناً لله. لقد كانت رغبة الله أن يجعل الإنسان شريكاً في الحياة الإلهيّة، أن يدخل في علاقة حبّ وبنوّة مع الله الخالق، وأن يحقّق الرغبة الموجودة في أعماقه بأن يبلغ غاية الفرح الإلهيّ والأبديّ. لذلك جعل اللهُ الخليقة كلّها بتصرّف الإنسان، ليحميها ويحافظ على جمال الله الموجود فيها. وصيّة واحدة أٌعطيت للإنسان: ألاّ يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، وهي صورة رمزيّة، معناها أن الإنسان لا يجب أن يصل بكبريائه الى الرغبة بأن يكون منفصلاً عن الله، لا يجب أن يدفعه جهله وكبريائه للتفتيش على جعل نفسه مكان الله.
لكن الإنسان اختار الانفصال، فضّل السماع لكلمات الشرّير ورفض وصيّة الله، لقد أراد أن يكون “مثل الله”، لا ابن الله. أراد أن يضع الله على هامش حياته، أراد أن يلغي الله ويضع نفسه محوراً للخليقة. لقد سقط في الخطيئة التي سقط فيها الشيطان قبله. الشيطان، الّذي كان اسمه لوسيفوروس، أي حامل النور، سقط بسبب كبريائه ورفضه لله، فتحوّل من حامل النور الى أمير الظلام.
الفرق بين الإنسان والملاك، أن الإنسان هو ذو معرفة ناقصة وحرّية ناقصة، أمّا الملاك فكان يعرف تماماً ماذا يعني التمرّد على الله، كان يعرف أن نتيجة تمرّده هو الإنفصال الأبديّ عن نبع الحياة، واختار بملء إرادته هذا الخيار، فلا عودة عن خياره لأنّ الله لا يغتصب حرّية مخلوقاته العاقلة.
أمّا الإنسان، فكانت حرّيته نسبيّة، وكان عمله مسيّراً نسبيّاُ بغشّ الشيطان له، لم يختر جهنّم بملء إرادته، ولكنّه كان يعلم أنّه “إن أكل من ثمرة المعرفة فموتاً يموت”. ولأنّ الله لا يغتصب حرّية كائناته العاقلة، فقد مات الإنسان بالخطيئة، طُرد من الجنّة، أي انفصل عن الحياة الإلهيّة. ونتيجة لهذا الإنفصال كان الموت. هذه هي الخطيئة الأصليّة التي يشترك فيها الجنس البشريّ بأسره، لأنّ رفض الله والرغبة بالإنفصال عنه بسبب كبريائنا دخل الى صميم طبيعتنا البشريّة.
نتائج الخطيئة الأصليّة:
-
فقدان العلاقة البنويّة مع الربّ الخالق، والدخول في علاقة الخوف والخجل: للمرّة الأولى يشعر الإنسان بالخجل “لأنّه عريان”، وبالخوف “سمعت صوت خطواتك في الحديقة فخفت” (تك 3، 10). لقد صار وجوده مصدر عار له، وصار يخجل من التكلّم مع الله. بدل علاقة المحبّة البنويّة، بدأت علاقة الخوف. لقد بدأ الإنسان يعتبر نفسه عبداً.
-
الحريّة المريضة: بعد أن استعمل الإنسان حريّته ضدّ محبّة الله وجرح قلبه الوالديّ، صار حريّة الإنسان مريضة، صار يتخبّط بين ما هو خير وما هو شرّ، وصار نزعته الداخليّة نحو الشرّ تقوى وتسيطر عليه. منذ سقوطة في الخطيئة الأصليّة، صار الإنسان مجزءاً، منقسماً على ذاته، مستعبداُ للشرّ، كما يقول بولس الرسول: “الخير الّذي أريده لا أصنعه، والشرّ الّذي لا أريد، إيّاه أفعل” (روم 7، 15.
-
انقطاع العلاقة الحسنة بين الإنسان وأخيه: بعد الخطيئة الأصليّة، بدأت سلسلة من الشرور والجرائم الفظيعة، بدايتها كان قتل الإنسان لأخيه، حين قتل قايينُ هابيل. لقد تملّك الشرّ قلب الإنسان. بعد الخطيئة بدأت الحروب، والإنقسامات في الجماعة البشريّة، وبدأ الإنسان يرغب أكثر فأكثر في الوصول الى الحلول مكان الله، كما تخبرنا رواية برج بابل، رمز الى كبرياء الإنسان، الّذي بعلمه وبتقنيّاته الحديثة يظنّ نفسه قادراً على الحلول مكان الله. هو أيضاً حال مجتمعنا اليوم، بعلمه وتقدّمه التكنولوجيّ يسعى الى الحلول مكان الله، يرغب في جعل نفسه خالقاّ، من خلال التلاعب بجسم الإنسان وبكرامته.
-
إنقطاع العلاقة الخيّرة بين الإنسان والطبيعة. الطبيعة التي خلقها الله ورآها حسنة وأسلمها لعناية الإنسان، بدأ الإنسان يشوّهها ويسيئ استعمالها. لم يعد يسعى الى حماية جمال الخالق في خليقته، بل صار يستعملها في خدمه مآربه. أليس هذا ما نقوم به اليوم نحن أيضاً؟ ألسنا ندمّر جمال الله في خليقته من خلال إهمالنا المحافظة عليها والإمعان في تشويهها وتلويثها؟
وعد الله بالخلاص:
بخطيئته حكم الإنسان على نفسه بالموت، لأنّه انفصل عن الله مصدر حياته ووجوده، فإن الله برحمته وعده بالخلاص، وبالمخلّص الّذي يأتي من حوّاء ليدوس رأس الحيّة. إن هذا الوعد قد تحقّق بولادة يسوع المسيح من مريم، حواء الجديدة. ولأن الله لا يمكنه أن يتجسّد في هيكل ملطّخ بالأوساخ، ولا أن يأخذ جسداً من إمرأة خاضعة للخطيئة، لذلك هيأ الرّب جسد مريم وكيانها من أوّل لحظة تكوّنها في حشا أمّها لتكون طاهرة نقيّة. فكيف للمخلّص أن يخلّص الإنسان من خطيئة آدم وحوّاء، إن كان هو مولوداً في جسد خاضع للخطيئة؟ فالرّب القائل: “ليس أحد يجعل رقعة من ثوب جديد في ثوب بال لأنها تأخذ ملأها من الثوب فيصير الخرق أوسع، ولا تجعل خمر جديدة في زقاق قديمة وإلا فتنشق الزقاق وتراق الخمر وتتلف الزقاق” متى 9، 16-17 هو هيأ مريم لتكون ثوباً جديداً لا خرقة بالية، ولتكون زقاقاً جديداً، لا زقاق خمر الخطيئة القديمة الملوّث بالكبرياء وبمعصية الله.
هناك من يعترض على هذه العقيدة قائلين: “إن كانت مريم لم تحتاج الى المسيح ليخلّصها مثل الجنس البشريّ بأسره، فهي صارت إلهة لا إنسانة، ولم يعد خلاص المسيح شاملاً للبشريّة بأسرها”. ولنجيب على هذا القول، يجب أن نقرأ نصّ العقيدة جيّداً كما أعلنه البابا بيوس التاسع: “أن الطوباويّة مريم العذراء، ومنذ أول لحظة تكوّنها، وبنعمة فريدة وبامتياز خاصّ من الله الضابط الكلّ، وبتطلّع الى استحقاقات يسوع المسيح، مخلّص الجنس البشري، قد حُفظت مصانة من كلّ وصمة الخطيئة الأصليّة”. تشدّد العقيدة على حقيقة أن مريم تشترك في الخلاص الشامل الّذي تمّمه المسيح إلهها، فهي ليست خارجة عن هذا الخلاص بل في صميمه وبنوع من الأنواع أداة له لأنّ منها تجسّد الرّب. لا تساوي الكنيسة بين مريم والمسيح، فالإبن وحده لم يخضع للخطيئة بالطبيعة، أمّا مريم فحُفظت من الخطيئة بالنعمة الإلهيّة لا بالطبيعة ولا باستحقاقها الشخصيّ. يقول بيوس التاسع: “وبتطلّع الى استحقاقات المسيح”: نحن كلّنا خلصنا من الخطيئة الأصليّة بالمعموديّة وباستحقاقات يسوع المسيح، أمّا مريم فخلصت بنفس الاستحقاقات، ولكن بطريقة مسبقة. لقد افتدى يسوع أمّه مريم بموته وقيامته قبل ان تولد، وبالتالي فهي تشارك جنسنا في الحاجة الى الخلاص، ولكنّها خُلّصت قبل ان تولد لتكون إناء طاهراً نقيّا لعطر المسيح الجميل، وهيكلاً مقدّسا يحتوي على الجسد الطاهر. هي لم تخضع للخطيئة لأنّها افتديت منها مسبقاً وصارت طاهرة منذ أوّل لحظة تكوّنها. لذلك يصحّ ما نقول في قدّاسنا المارونيّ: “لأنّ واحداً ظهر على الأرض بلا خطيئة، هو ربّنا وإلهنا يسوع المسيح”، لأنّنا بهذا نعني أن واحداً تجسّد دون خطيئة باستحقاقاته الخاصّة، أمّا الباقون كلّهم، بما فيهم مريم العذراء، فقد خلصوا من الخطيئة باستحقاقات يسوع المسيح الّذي مات وقام من أجلهم ليخلّصهم.
مريم البريئة من الخطيئة الأصليّة هي معلّمة لي اليوم في تتلمذي للمسيح:
-
هي تعلّمني أن الله هو أب، وأني ابن ولست عبداً. أنا كائن أسعى الى نضجي الرّوحي ولا أبقى القاصر في الحياة الرّوحيّة، غير قادر على اختيار الخير والجمال، على اختيار الله ورفض الشرّ.
-
تعلّمني أن أعلم أن لا ضرورة لقتل الله في حياتي لأنمو. آدم وحوّاء كانا يظنّان أن لا بد من إلغاء الله ليصبحا أحراراً: هي نظرة العبد نحو سيّده لا نظرة الإبن نحو أبيه. مريم أحبّت الله، لم تخف منه ولم تجده سيّداً يستعبدها، وثقت به وأطاعته، أعلنت نفسها خادمة لإرادته في حياتها ولم تسع الى التحرّر منه كما فعلت والدتها حوّاء الأولى. علمت مريم أن خدمة الله لا يمكن ان تكون في العبوديّة، بل في تحرّر القلب من كلّ ما يعيقنا عن خدمة الرّب والطاعة له. فالرّب يريد سعادتنا، ويريد لقلبنا أن يبلغ غايته: السعادة الأبديّة. علمت مريم أن حرّيتها الحقيقيةّ تجدها في الطاعة لله وفي خدمة القريب، أمّا الحريّات الوهميّة التي يقدّمها لنا المجتمع، حرّية المال، والسلطة والزنى والمخدّرات واللّهو والمقامرة، سواها من حريّات زائفة، فهي حريّات تستعبد قلبنا، تقدّم لنا التعاسة لا السعادة، تقدّم لنا السجن لا الحريّة، تهبنا اليأس لا السعادة والفراغ لا ملء القلب.
-
مريم البريئة من الخطيئة الأصليّة تعلمني أن خطيئتي تؤثّر في الآخرين، فأنا عضو في الإنسانيّة ومصيري يرتبط بمصيرهم وشرّي يؤثّر عليهم. أنا فرد ضمن جماعة الكنيسة، وخطيئتي تؤثّر على مسيرة شعب الله نحو الملكوت، فالعضو المريض بالخطيئة يمنع تقدّم الجسد نحو هدفه الأخير.