القديس يوستينوس الشهيد
شفيع طلاّب الفلسفة
نشأته
وُلد القدّيس يوستينوس في مطلع القرن الثّاني للميلاد في فلافيا نيابوليس الفلسطينيّة، المعروفة بنابلس، لعائلة وثنيّة. عاش في بحبوحة وتلقّى تعليمًا مُختارًا، حيث عاشر الفلاسفة، كما عرِف الرّواقيّة والأرسطوطاليسيّة والفيثاغوريّة لكن لم تغوه أيِّ منها، وأثّرت في نفسه مقولة “الأفكار” والعالم الرُّوحيّ عند أفلاطون. ظنّ بعد حين، أنّه بلغ القصد وأمسك بالحكمة. وإذ رغب في مُعاينة الله، اعتزل في موضعٍ هادئ عند البحر ليخلد إلى تأمّلاته.
درايته بآلام المسيحيّين
لم يكن يوستينوس غريبًا عمّا يجري للمسيحيّين، إذ يبدو أنّه لمّا كان من تلامذة أفلاطون، كما قال، استوقفته التّهم الموجّهة إليهم. شاهدهم يواجهون الموت ويجابهون ما يخشاه سواهم بشجاعة فائقة. صدمته هذه المواقف الشجاعة للمسيحيين وأقنعته أنّهم على حقّ، لأنّه يستحيل أن يكون أمثالهم في ضلال أو أن ينغمسوا في المَلَذَّات.
التّعليم والدّفاع عن المسيحيّين
بعدما اقتَبَلَ المعموديّة انكبَّ على دراسةِ الكتابِ المُقَدَّس في فلسطين، ثمّ، من غير أن يتخلّى عن الرّداء واللّحية، وهما العلامتان الفارقتان للفلاسفة، خرج يعلّم “الفلسفة الحقّ”، فلسفة الأنبياء والرّسل القدّيسين في آسيا الصّغرى. بحسب أفسافيوس القيصريّ المؤرِّخ، اعتناق يوستينوس المسيحيّة، وكان ذلك قبل ثورة باركوكبا اليهوديّ الّذي ادّعى أنّه المسيح المُنتظَر. تاريخ ذلك ربّما كان بين العامَيْن 132 و135 للميلاد. لم يصر يوستينوس كاهنًا لكنّه أخذ على عاتقه مهمّة الدّفاع عن تعاليم المسيح. في حواره مع تريفون أبدى أنّه على كلّ إنسان أن يبشِّر بالحقّ ويدافع عنه والله سيدين مَن يتقاعس عن ذلك.
حواره مع تريفون
حوالي العام 136 للميلاد التقى يوستينوس أحد الرّبابنة اليهود المعروفين في آسيا الصُّغرى، وهو تريفون الّذي يُظنّ أنّه التقاه في إزمير. تحاور الرَّجلان على مدى يومين. حصيلة الحوار دوّنها يوستينوس، فيما بعد، وقد حفظت إلى هذا اليوم. أبان القديس لمحدّثه تريفون، بالعودة إلى شواهد عديدة من الكِتاب المُقَدَّس، أنّ الشّريعة والعهد القديم برمّته لم يكن سوى مُقدّمة ورسم فذّ متماسك للمسيح ابن الله، مشرِّع العهد الجديد، الّذي سبق الأنبياء فتكلّموا عليه.
دفاعاته الأولى والثّانية
بعد آسيا يبدو أنّ يوستينوس تحوّل إلى رومية حيث طالت إقامته على دفعتين بدءًا من حوالي العام 138 للميلاد، فيها اتّخذ مَقَرًّا بالقُرب من حمّامات تيموثاوس وصار يستقبل طلّاب المعرفة الحقّ. عُرفت مدرستُه وذاع خبرها في زمن الإمبراطور أدريانوس ولا سيّما الإمبراطور أنطونيوس التَّقيّ. تلك الفترة من حياته كانت حافلة أيضًا بالنِّتاج الفكريّ. الدّفاعيّتان اللّتان وصلتانا منه عن المسيحيّة والمسيحيّين تعودان إلى تلك الحَقَبَة. الدّفاعيّة الأولى وجّهها، بخاصّةً، إلى الإمبراطور أنطونيوس التّقيّ ومجلس الشّيوخ، وهي تعود، في تاريخها، إلى حوالي العام 155 للميلاد. أمّا الدّفاعيّة الثّانية فمن العام 160 للميلاد وقد رفعها إلى الإمبراطور ماركوس أوريليوس ومجلس شيوخه. في الأولى دحض الوشايات الفظّة الّتي أشاعها الوثنيّون في شأن المَسيحيّين. أمّا في دفاعيّته الثّانية فيُجيب على اعتراض الوثنيّين: لماذا لا ينتحر المسيحيّون ليبلغوا إلى ربّهم سريعًا؟ ثمّ، إذا كان إله المسيحيّين كليّ القدرة حقًّا فلماذا يدع عابديه يُضطهَدون؟ أفاد يوستينوس أنّ غيظ الأبالسة وحسدهم هو سبب اضطهاد المسيحيّين وأنّهم لو لم يكونوا حقانيّين وذوي فضل لتعذّر تفسير تصبّرهم على التّعذيب. إذ كان الله قد أخّر المصيبة الّتي لا بُدّ أن تحلّ بالكون فمن أجل جنس المسيحيّين. ثمّ ختم بالقول: “أنا مسيحيّ وبذلك أفتخر وأعترف أنّ كلّ شهوتي هو أن أُعرَف كذلك”.
استشهاده ورفاقه
كان عدوّ يوستينوس الألدّ كريشينس (Crescens) الفيلسوف الّذي سعى جاهدًا للتّخلُّص مِنَ القدّيس ورفاقه. وبالفعل تسبّب في قبض الوالي روستيكوس عليه ومَن معه. وبعد اعترافهم جميعًا بأنّهم مسيحيّون جُلدوا وقُطعت هاماتهم. وكان ذلك في حدود العام 165م.
لماذا اختير القديس يوستينوس الشهيد شفيعاً لطلاَّب الفلسفة؟
نرى في حياة القديس يوستينوس وخاصّةً في مؤلَّفه “حوار مع تريفون”، أنه كان من المحبين للفلسفة المسيحية التي كانت عند الأنبياء ورُسل الحَق واعتبرها الفلسفة الحقَّ، فمن خلال هؤلاء الأنبياء أصبح لديه حبٌ للفلسفة، التي من خلالها يمكن للفلاسفة أن يلاقوا الله ويتعرَّفوا عليه. وكما ورد في لقائه مع الشيخ، حيث كان الشّيخ قد سأله كيف للفلاسفة أن تكون لهم عن الله فكرة صائبة ولمّا يعرفوه بالخبرة. وإذ أجاب يوستينوس أنّ في طاقة الذّهن أن يُعاين الله، أردف الشّيخ إنّ الذّهن لا يحوز مثل هذه القدرة ما لم يتّشح بالرُّوح القدس أوّلًا، بعد أن يكون قد تنقّى بمُمارسة الفضيلة.
يقول يوستينوس في مؤلَّفه “حوار مع تريفون”، الفصل الثّامن: “أسمعني الرّجل هذا الكلام وغيره الكثير… ثم تركني ومضى بعد أن نصحني بالتّأمّل بكلّ ما سمعته منه. ولم تشاهده عيناي بعد ذلك اليوم. غير أنّ نارًا اشتعلت فجأةً في داخلي فأحببت أولئك الأنبياء، حَمَلة الحقّ، وجميع أصدقاء المسيح. ولمّا تملّأتُ منهم وأمعنتُ النَّظر في أقوالهم أدركت أنّ فلسفتهم هي الفلسفة المُفيدة. تلك هي الأسباب الّتي قادتني إلى الفلسفة وجعلتني فيلسوفًا”.
أما نحن، طلاَّب الفلسفة، فنرى في القديس يوستينوس خير مثال وبرهان على أن الفلسفة -إن استعملت بالشكل الصحيح-، فهي قادرة على أن تقودنا إلى الله، إلى معرفته أكثر، لذلك اتخذناه شفيعاً لنا أثناء دراستنا للفلسفة.
القديس توما الأكويني
شفيع طلاّب اللاهوت
من هو القديس توما الأكوينيّ؟
ولد القديس توما الأكويني في حوالي العام 1225م، في مملكة صقليّة (إيطاليا اليوم). بدأ توما الأكويني تعليمه المبكر في سن الخامسة في دير مونت كاسينو، غير أنه بعد اندلاع الصراع العسكري بين الإمبراطور فريدريك الثاني والبابا غريغوري التاسع ووصوله إلى الدير في بدايات 1239م، قرر لاندولف وثيودورا إرسال ابنهما إلى الجامعة التي أنشأها فريدريك حديثاً في نابولي، لكونها أكثر أماناً له.
في عام 1243م، قرّر توما الانضمام إلى الرّهبانيّة الدومينيكانيّة، إلّا أن هذا القرار لم يرض عائلته، وفي محاولة للتدخل في خيارات ابنها توما، أرسلت والدته أخوته لاعتقاله بينما كان في طريقه إلى روما، وأعيد إلى والديه في قلعة مونت سان جيوفاني كامبانو. وبقي معتقلاً في مقر إقامة أسرته في روكاسكا لعامين، في محاولة لمنعه من الانضمام إلى الرهبانية الدومينيكانية.
بلغ اليأس بأفراد عائلته حد أن اثنين من أشقائه استأجرا بغياً لإغوائه، لكنه طردها، ووفقاً للتقليد فقد زاراه ملاكان في تلك الليلة في منامه وقويا من عزمه على الوفاء بنذر العفة. وفي آخر الأمر، قررت والدته – بعد أن فشلت جميع محاولاتها لثني ابنها عن عزمه – فدبرت هروبه في الليل عبر نافذته، لأنها رأت أن هروباً سرياً في اللّيل سيخلف ضرراً أقل بكثير من الضرر الذي سيخلفه استسلام مفتوح لرغبته في الانضمام للرهبنة.
لقد عاش حياة مفعمة بالعمل الأكاديمي واللّاهوتي، وفد تميّز بمهارته الفذة في الكتابة وشرح اللّاهوت. بالإضافة إلى ذلك فقد عاش حياة رهبانية حقيقيّة: ملتزماً بنذوره، وعائشاً إياها بكمالها. وقد تميّز أيضاً بتواضعه وبساطته، رغم إنجازاته العديدة.
في عيد القديس نيقولاوس عام 1273م، نال القديس توما رؤيا صوفيّة غيّرت من حياته بعد أن كتب العديد من الكتب. خلال القدّاس، سمع صوتاً آتياً من المصلوب يقول: “لقد كتبت جيّداً عنّي يا توما، بماذا تريدني أن أكافئكَ؟” فأجاب توما باكياً: “لا شيء يا ربّ، إني أفعل كلّ هذا من أجلك فقط”، فعزم من وقته أن يتوقّف عن الكتابة. إلا أن معرّفه الأب رينالد من بيبيرنو حثّه على أن يستمر في الكتابة، فأجاب: “لا أستطيع ان أكتب مجدّداً. لقد كُشفت لي أسرارا عديدة، وهذه الأسرار التي قد كُشفت لي تجعل من كل ما كتبته عديم الجدوى”. ومنذ ذلك الوقت لم يكتب أي شيء.
لقد تميّز القديس توما بتواضعه وحبّه لإخوته الرهبان ولطلّابه الذين قام بتعليمهم طول فترة حياته. وقد تمكّن من خلال الأمانة في حياته البسيطة أن يعيش القداسة ويوصل كلمة الله ولاهوته لقلوب كلّ الناس الذين قابلوه.
لماذا اختير القديس توما الأكويني ليكون شفيعاً لدارسي اللّاهوت؟
إن القديس توما، هو واجهة التقليد المسيحي اللّاهوتي، وتعتبر كتاباته مصدراً موثوقاً للاهوت الكاثوليكيّ. يعتبر القديس توما من أعطم معلّمي اللّاهوت في العصور الوسطى، وقد أعطي لقب معلّم الكنيسة، ولقب المعلّم الملائكيّ.
في عام 1239م، أرسله والديه إلى نابولي لكي يكمل دراسته، وهناك تعرّف على فلسفة أرسطو، التي كان لها دور كبير في صياغة أسلوبه اللّاهوتيّ. وفي عام 1243م، اقر الانضمام إلى الرهبانية الدومينيكانيّة، ولم يتمكّن من الالتحاق بالدير حتى سنتين من ذلك الوقت، لممانعة أهله لهذا القرار. عندما تمكّن من التخلّص من قيود أهله، ذهب إلى باريس ثم إلى كولون، حيث أكمل دراساته على يدّ القديس ألبيرتوس الكبير. أصبح أستاذا في باريس، بدرجتيّ تعليم، وعاش في بلاط البابا أوربانوس الرابع، وقد عرف بإنجازاته الأكاديميّة الكبيرة، ودفاعه عن فلسفة أرسطو.
لقد ساهم في بناء التقليد اللّاهوتيّ الكاثوليكيّ من خلال كتاباته العديدة: إن معرفته واطلاعه على العديد من المصادر، بالإضافة إلى انسجامه مع تقليد الكنيسة الطويل، مكّنه من أن يُظهر في كتاباته الحقيقة التي تعلّمها الكنيسة بطريقة يفهمها أهل عصره، والتي لا زالت فعّالة حتى اليوم. ومن أهم مؤلفاته “الخلاصة اللّاهوتيّة” التي كتبها قبل وفاته عام 1273م، ولم يتمكّن من إكمالها، إلا أنها لا زالت تشكّل مصدراً أساسيّاً للّاهوت الكاثوليكيّ.
إن اختيار القديس توما الأكويني ليكون شفيعاً لطلّاب اللّاهوت ليس اعتباطيا. بل قد اختير لكونه من أعظم القديسين الذين كتبوا حول علم اللّاهوت وقاموا بصياغته بأسلوب يفهمه أهل عصرهم، وقد تمكّنوا في الوقت ذاته من الحفاظ على تواضعهم ومحبّتهم العميقة لله وللآخرين. فالقديس توما الأكويني قد عاش حياته، تحت إرشاد الله واستنارته.