عِظَة المطران مارون لحام في القداس الاحتفالي بقبول المرشحين للرسامة الشماسية الانجيلية المقدسة

SONY DSC

حضرة الآباء المحترمين، الأخوات الراهبات، الشمامسة الأعزاء، أيها الإخوة والأخوات.

حياة المعهد الاكليريكي، بما فيها من روتينية وجهد وصبر وجهاد روحي مستمر، فيها أيضاً لحظات فرح وتعزية وشكر. والاحتفال بالقبول في الرسامات المقدسة لحظة من هذه اللحظات. ولكن التعب يختفي ويصبح فيها المرُّ حلواً والمرارة تعزية.

ماذا نقول للشباب الذي يقومون اليوم بالخطوة قبل النهائية للسير وراء السيد المسيح الكاهن الأول والأكبر؟ أقول لهم أنهم يختارون طريق الفرح، وأنه لا معنى لالتزامهم اليوم في تكريسهم للرب إلاّ إذا كان ذلك طريقاً للفرح. ففي الإنجيل المقدس، يُعطي السيد المسيح مثل الرجل الذي وجد كنـزاً في حقله، فمضى لشدّة فرحه وباع جميع ما يملك ليشتري هذا الحقل (متى 13، 44-46). ونفس الأمر عمّن وجد  اللؤلؤة الثمينة. وفي نفس الوقت يقول السيد المسيح لمن يريدون أن يتبعوه: “كل واحد منكم لا يتخلّى عن جميع أمواله لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً” (لوقا 14، 33). كيف يمكن لهذا التخلّي الكامل أن يكون نبعاً للفرح؟ كيف يمكن أن تكون حياة التكريس لله، حياة الفقر الإختياري والطاعة والعفة نداءَ فرح لرجال ونساء اليوم، وأن تجذب الشباب للسير في نفس الطريق؟

اتباع المسيح الكاهن نبعٌ لفرح القلب. يريد يسوع لتلاميذه أن يكونوا فرحين وسعداء. لكن للوصول إلى هذا الفرح يجب المرور بالبريّة. فمن يريد أن يحمل ثمراً كثيراً يجب أن يقع في الأرض الطيبة ويموت، ومن يريد أن يختبر فرح الولادة يجب أن يمر بآلام المخاض، ومن يريد أن يتذوق فرح القيامة يجب أن يمر عبر سكرات الموت. وكلّ هذا ممكن، إن كان المسيح هو الخيار الأول والجذري والوحيد للشخص المكرّس. لا يمكن للمكرّس أن يجد الفرح في التخلّي عمّا يملكه (الفقر)، وعمّا يقرّر أن يعمَلَه (الطاعة) وعمّا يرغب فيه (العفّة) إلاّ إذا كان شخص يسوع المسيح هو هدفه الأول ومثله الأعلى ورغبته الوحيدة.

أولاً: الفقر كنـزُ فرح. الفقر الذي يقود إلى الفرح ليس الفقر الذي يقوم على ألم الحرمان وعدم إمكانية التصرف في المال بحرية، بل هو الفقر الذي يُعاش بأيدٍ مفتوحة. أيدي تتلقّى وتعطي ما تتلقّاه. يقول مار بولس أن “السعادة في العطاء أعظم منها في الأخذ” (أعمال 20، 35). فرح الفقر هو الإفراغ من الذات لنتمكّن من أن نستقبل كل يوم عطية الله. فرح الفقر هو أن نشهد أمام المجتمع الإستهلاكي أن “الله وحده يكفي” (يوحنا الصليب).

ثانياً: الطاعة طريق إلى الحرية. يمكن أن نجد الفرح في الوقت الذي نضحي فيه بحريتنا في فعل طاعة لله. السبب هو أنه لا يمكننا أن نستمتع بالحرية الحقيقية إلا إذا كانت لدينا الشجاعة للإلتزام بمَثَل أعلى. والمثل الأعلى هو يسوع المسيح الذي عاش فقط ليعمل مشيئة أبيه السماوي. لهذا السبب، لا يمكن لأحد أن يكون حراً وسعيداً إلا عندما يقبل أن يعيش وفق مشيئة الله، أن يعيش بأذنين مفتوحتين لسماع احتياجات البشر. الطاعة إذا ليست مسكّناً أو مخدّراً يعفي المكرّس من مسئوليّاته ويجعله يعيش في عالم وكأنه بلا هموم. الطاعة هي الانتباه لمشيئة الله التي لا يوجد بدونها أية حرية حقيقية أو فرح حقيقي.

أخيراً: العفة فرح الحب. العفة ليست الحرمان من الحب بل هي فنٌّ في الحب. هي الفن في الحب بدون حدود ودون تمييز بين الناس، مع إعطاء الأولوية لمنكسري القلوب. السيد المسيح لم يتزوج كي لا يضع حدوداً لقدرته على الحب، ولكي يعيش أبوّة شاملة وأخوّة بلا حدود. عيش العفة في اتباعنا ليسوع هو فرح العيش بقلب مفتوح. وهكذا، بدل من المعاناة من عدم وجود رفيق لحياتنا، نصبح رفاقاً لجميع الناس؛ وبدل من عيش الحرمان من أن نكون أبّاً أو أمّاً، نصبح شهوداً لمحبة الله ولمحبة القريب دون أي تمييز. العفة هي أن نكون كليّاً “رجلاً أو إمرأة من أجل الآخرين”.

مختصر القول: الإنسان المكرّس يعيش بأيدٍ مفتوحة (الفقر) وأذنين مفتوحتين (الطاعة) وقلب مفتوح (العفة).

  • أيدٍ مفتوحة لاستقبال أي شيء وإعطاء كل شي. “فحيث يكون كنـزك هناك قلبك”.

  • أذنان مفتوحتان للإنتباه لمشيئة الله التي بدونها لا يوجد فرح، ولوجود الله في شخص المحتاجين.

  • قلب مفتوح لحبٍّ بلا حدود على مثال الله الذي يشرق شمسه على الأخيار والأشرار.

أيها الشباب، هذا ما أنتم عليه مقبلون، هذا معنى اختياركم الرسمي اليوم أمام الله وأمام الكنيسة وأمام رؤساكم. هي مسيرة كما أن الإيمان مسيرة وكما أن الحياة المسيحية بأكملها مسيرة. وفي كل مسيرة هنالك لحظات قوة ولحظات ضعف، لحظات صعود ولحظات هبوط، لحظات حماس ولحظات فتور. ما يعزينا في هذه المسيرة هو أن هناك رفيق يسير معنا اسمه يسوع المسيح، رفيق لا يخون ولا يضعف ولا يفتر في محبته لنا. رفيق قلبه واسع يفهم ويعذر ويأخذ بيدنا لننهض من هفواتنا ونتابع السير معه. المهم أن يبقى الفرح يعمر قلوبنا، لأننا نعلم أننا اخترنا النصيب الأفضل الذي لن يُنـزع منا.

مبروك لكم بداية المسيرة. آمين.

المطران مارون لحام

بيت جالا 26/11/2014

Facebook
WhatsApp
Email