التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية المقدسة
عرّبه
عن الطبعة اللاتينية الأصلية
– المتروبوليت حبيب باشا
– المطران يوحنا منصور
– المطران كيرلس سليم بسترس
– الأب حنا الفاخوري
الفصل الأول
الإنسان “قادر” على (الاتصال) باللّه
26- عندما نعترف بإيماننا نبدأ بالقول : “أؤمن” أو “نؤمن”.فقبل أن نعرض إيمان الكنيسة كما يعترف به في قانون الايمان، ويحتفل به في الليترجيا، ويعاش في العمل بالوصايا وفي الصلاة، فلنتساءل ما معنى “امن”؟ الإيمان إجابة الإنسان للّه الذي يكشف له عن ذاته ويهبها له، وهو في الوقت نفسه يؤتي الإنسان نوراً فياضاً في بحثه عن معنى الحياة الأخير. ونحن من ثم ننظر أولاً في بحث الإنسان هذا (الفصل الأول)، ثم في الوحي الإلهي الذي يلاقي فيه الله الإنسان (الفصل الثاني)، وأخيراً في جواب الإيمان (الفصل الثالث).
1. تطلب الله
27- تطلب الله رغبة منقوشة في قلب الإنسان، لأن الإنسان خليقة من الله وللّه؛ والله يجتذب الإنسان إليه اجتذاباً متواصلاً، والإنسان لن يجد الحقيقة والسعادة اللتين يسعى إليهما دائماً إلا في الله :
“إن في دعوة الإنسان هذه إلى الاتصال باللّه لأسمى مظهر من مظاهر الكرامة البشرية. ودعوة الله هذه التي يوجهها إلى الإنسان ليقيم معه حواراً تبدأ مع بدء الوجود البشري. ذلك أن الإنسان إذا وجد فإن الله خلقه بمحبة، وهو بمحبة منحه الكينونة على الدوام؛ والإنسان لا يحيا حياة كاملة بحسب الحق إلا إذا اعترف اعترافاً حراً بهذه المحبة وسلم أمره لخالقه”.
28- عمد البشر، على مدى تاريخهم وإلى اليوم، إلى طرائق متعددة للتعبير عن تطلبهم الله بعقائدهم وسلوكهم الديني (صلوات، ذبائح، عبادات وطقوس، تأملات، الخ.) وعلى ما قد يكون في هذه الطرائق التعبيرية من ملابسات، فإنها علامة إلى حد أننا نستطيع أن نسمي الإنسان كائناً متديناً :
إن الله “صنع من واحد كل أمة من البشر، ليسكنوا على وجه الأرض كلها، محددا (لهم) مدى الأزمنة وتخوم مساكنهم؛ لكي يطلبوا الله، لعلهم يجدونه متلمسين، مع أنه غير بعيد من كل واحد منا، إذ به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع 17: 26-28).
29- ولكن هذه “العلاقة الحميمة والحيوية التي تجمع بين الانسان والله ” قد ينساها الانسان ويتجاهلها او قد يتوصل إلى رفضها رفضا صريحا. وقد يكون لمثل هذه المواقف اسباب شديدة التنوع : الثورة على الشر في العالم، الجهل او اللااكثرات في الدين، هموم العالم وهموم الغنى، سلوك المؤمنين السيىء ، التيارات الفكرية المعادية للدين، واخيرا هذا الموقف الذي يقفه الانسان الخاطىء فيختبىء، خوفا، من امام وجه الله، ويهرب من دعائه.
30- “الابتهاج لقلوب ملتمسي الله” (مز 105: 3). اذا كان بامكان الانسان ان ينسى الله او يرفضه، فان الله لا يفتأ يدعو كل انسان إلى التماسه لكي يحيا ويبلغ السعادة. الا ان هذا الالتماس يقتضي من الانسان جهد عقله الكامل، واستقامة ارادته، و”قلبا مستقيما”، كما يقتضي ايضا شهادة الاخرين الذين يعلمونه كيف يلتمس الله.
“انك عظيم يا رب، واهل لاسمى مديح: عظيمة قدرتك وليس لحكمتك حد. والانسان، هذا الجزء الصغير من خليقتك، يدعي مدحك، هذا الانسان ذاته، في تلبس حالة القابلة الموت، يحمل في ذاته شهادة اثمة، والشهادة على انك تقاوم المتكبرين. مع ذلك كله، يريد الانسان، هذا الجزء الصغير من خليقتك، يريد ان يمدحك. انت نفسك تحضه على ذلك، اذ تجعله يجد متعه في تسبيحك ، لانك خلقتنا لك، ولان قلبنا لا يجد الراحة الا عندما يستقر فيك”.
2. المداخل إلى معرفة الله
31- الانسان الذي خلق على صورة الله، ودعي إلى معرفة الله ومحبته، يجد عند التماسه الله بعض “السبل” للدخول في معرفة الله؛ وهي تدعي ايضا “شواهد على وجود الله”، لا بمعنى البراهين التي تطلبها العلوم الطبيعية، بل بمعنى “الادلة المتلاقية والمقنعة” التي تتيح الوصول إلى حقائق ثابتة.
هذه “السبل” لمقاربة الله تنطلق من الخليقة : العالم المادي والشخص البشري.
32- العالم: انطلاقا من الحركة والصيرورة، من امكان الحدوث، من نظام العالم وجماله، تصبح من الممكن معرفة الله مبدأ وغاية للكون.
القديس بولس يثبت في شأن الامم: “ما قد يعرف عن الله واضح لهم، اذ ان الله (هو نفسه) قد اوضحه لهم. فان صفاته غير المنظورة، ولا سيما قدرته الازلية والوهته، تبصر منذ خلق العالم، مدركه بمروءاته ” (رو 1: 19-20). والقديس اوغسطينوس يقول: “سائل جمال الارض، سائل جمال البحر، سائل جمال الهواء الذي يتمدد وينتشر، سائل جمال السماء (…) سائل هذه الحقائق كلها. فتجيبك كلها: نحن جميلات. وجمالها اعتراف. هذه الجمالات القابلة التغير، هل صنعها الا الجميل الذي لا يقبل التغير؟”.
33- الانسان : مع انفتاح الانسان على الحق والجمال، ومع تحسسه للخير الادبي، وحريته وصوت ضميره، ومع توقه إلى ما لا ينتهي والى السعادة، فهو يتساءل عن وجود الله. وهو في كل ذلك يلمح اشارات من نفسه الروحانية. “ان زرع الخلود الذي حمله في ذاته، والذي لا ينتهي في المادة”، ان نفسه لا يمكن ان يكون مبدأها في غير الله وحده.
34- العالم والانسان يثبتان ان ليس لهما في ذاتهما مبدأهما الاول ولا غايتهما الاخيرة، ولكنهما يشتركان في الكائن بذاته الذي لا مبدأ له ولا نهاية. وهكذا يستطيع الانسان بهذه “السبل” المختلفة ان يدخل في معرفة وجود حقيقة هي المبدأ الاول والغاية الاخيرة لكل شيء، وهي “التي يسميها الجميع الله”.
35- ان قوى الانسان تجعله قادرا على معرفة وجود اله شخصي. ولكن لكي يتمكن الانسان من الدخول في الفة الله، اراد الله ان يكشف له عن ذاته، وان يمنحه النعمة التي تمكنه من تقبل هذا الوحي في الايمان. وعلى كل حال، فالادلة على وجود الله من شأنها ان تعد للايمان وان تساعد على التثبت في ان لا خلاف بين الايمان والعقل البشري.
3. معرفة الله في رأي الكنيسة
36- ” ان امنا الكنيسة المقدسة ترى وتعلم انه من الممكن ان يعرف الله، مبدأ كل الاشياء وغايتها، معرفة يقين بنور العقل الانساني الطبيعي انطلاقا من الاشياء المخلوقة “. وبدون هذه المقدرة لا يستطيع الانسان ان يتقبل وحي الله. وهو ينعم بهذه المقدرة لانه مخلوق “على صورة الله” (تك 1: 27).
37- والانسان، في الحالات التاريخية التي يوجد فيها، يعاني صعوبات كثيرة في اعتماده على نور العقل وحده لمعرفة الله :
“وان كان في استطاعه العقل البشري – نقول ذلك في بساطة- ان يتوصل، بقواه الطبيعية ونوره الطبيعي، إلى معرفة اله شخصي معرفة حقيقية وثابتة، اله يصون العالم ويسوسه بعنايته، والى معرفة ناموس طبيعي جعله الخالق في نفوسنا، فهنالك مع ذلك عقبات كثيرة تحول دون ان يستعمل هذا العقل نفسه طاقته الطبيعية استعمالا ناجعا وذا فائدة، لان الحقائق التي تتعلق بالله وبالبشر تفوق، على وجه مطلق، نظام الاشياء الحسية، واذا كانت في سياق ان تترجم إلى عمل والى ان تصبغ الحياة، فهي تقتضي بذل الذات والزهد. وفي سبيل الحصول على مثل هذه الحقائق تعاني النفس البشرية صعوبات من قبل الحواس والمخيلة، كما من قبل الميول الشريرة الناتجة عن الخطيئة الاصلية. من هنا يسهل الاقتناع عند البشر، في مثل هذه المواد، بعدم صوابية الاشياء التي يتمنون لها عدم الصوابية، او على الاقل عدم ثباتها”.
38- ولهذا فالانسان بحاجة إلى ان ينيره وحي الله، ليس في ما يفوق ادراكه وحسب، ولكن في امر “الحقائق الدينية والاخلاقية ايضا التي لا يعجز العقل عن ادراكها، وذلك لكي تصبح، في الوضع الحالي للجنس البشري، معروفة لدى الجميع في غير عسر، معروفة معرفة اكيدة ثابتة ولا يشوبها ضلال”.
4. كيف التكلم على الله
39- مع الدفاع عن مقدرة العقل البشري على معرفة الله، تعبر الكنيسة عن ثقتها في امكان التكلم على الله لجميع البشر ومع جميع البشر. وهذا الاقتناع هو منطلق حوارها مع سائر الاديان، ومع الفلسفة والعلوم، وكذلك مع الكفرة والملحدين.
40- واذ كانت معرفتنا لله محدودة، فكلامنا على الله محدود ايضا . اننا لا نستطيع ان نسمي الله الا انطلاقا من المخلوقات، وعلى طريقتنا البشرية المحدودة في المعرفة والتفكير.
41- في جميع المخلوقات بعض الشبة بالله، ولا سيما الانسان المخلوق على صورة الله ومثاله. فالكمالات المتعددة في الخلائق (حقيقتها، وصلاحها، وجمالها) تعكس اذن كمال الله اللامتناهي. ولنا من ثم ان نسمي الله انطلاقا من كمالات خلائقه، “فانه بعظم المبروءات وجمالها ناظرها على طريق المقايسة” (حك 13: 5).
42- الله يسمو على كل خليقة. فيجب علينا من ثم وعلى الدوام تنقية كلامنا من كل ما فيه من محدود، وناقص، حتى لا نخلط الله “الذي لا يفي به وصف. ولا يحده عقل، ولا يرى ولا يدرك” بتصوراتنا البشرية. ان اقوالنا البشرية تظل ابدا دون سر الله.
43- عندما نتكلم هكذا على الله، يعبر كلامنا تعبيرا بشريا، ولكنة في الحقيقة يصل إلى الله نفسه، وان لم يتمكن مع ذلك من التعبير عنه في لا نهاية بساطته. ومن ثم يجب ان نتذكر انه “مهما كان من شبة بين الخالق والمخلوق، فالاختلاف بينهما اعظم ايضا”، واننا “لا نستطيع ان نعرف من الله ما هو، بل ما ليس هو فقط، وكيف تقع الكائنات الاخرى بالنسبة اليه” .
بايجاز
44- الانسان بطبيعتة وبدعوته كائن متدين. واذ كان الانسان اتيا من الله وذاهبا نحوة، فهو لا يحيا حياة بشرية كاملة الا اذا عاش حرا في صلتة بالله.
45- الانسان مصنوع لكي يعيش في شركة مع الله وفية يجد سعادتة: “عندما أصير يكليتي فيك أصبح أبدا في نجاة من الغم والشدة؛ وعندما تصير حياتي مليئة بك، تكون قد بلغت غايتها”.
46- عندما يصغي الانسان الى شهادة المبرؤات والى صوت ضميرة، يستطيع أن يبلغ الى اليقين في ما هو من وجود الله، مصدر كل شيء وغايته.
47- الكنيسة تعلم أن الله الواحد والحقيقي، خالقنا وربنا، تمكن معرفته معرفة أكيدة عن طريق صنائعة بنور العقل البشري الطبيعي.
48- نستطيع في الحقيقة أن نسمي الله انطلاقا من الكمالات المتعددة في الخلائق، تلك المماثلات لله في لا نهاية كمالة، وان قصر تعبيرنا المحدود عن استيعاب سرة.
49- “الخليقة تتلاشى بدون الخالق”. ولهذا فالمؤمنون يستشعرون في ذواتهم محبة المسيح تحضهم على أن يحملوا نور الله الحي الى الذين يجهلونه أو يرفضونه.